بعد عشر سنوات من بدء دخول القوات الأميركية العراق وما تبعه من تغيرات كبيرة شهدها الواقع السياسي من حقنا كمواطنين أن نتساءل عن حجم المتغيرات وهل كانت بمستوى تطلعاتنا أو اقتربت مما كنا نصبو إليه ؟ وأن نتوقف ملياً لتقييم ما حصل وما يجري الآن وما تشهده العملية السياسية من تحديات ومخاطر وأزمات انعكست سلباً على كل جوانب المشهد السياسي والاقتصادي والاجتماعي .
ومن المعروف أن البدايات الأولى لهذا التغيير شهدت مراحل بدأت بتسلم بول بريمر سيئ الصيت إدارة البلاد من غارنر منحت خلالها لبريمر سلطات واسعة اتخذ خلالها قرارات غير مدروسة و شرع بمفرده من دون تشاور حقيقي حتى مع أعضاء مجلس الحكم الذي تم تشكيله في تموز من عام 2003 قوانين بعضها لم يجر تغييره وما زال العمل به سارياً لحد الآن ، وهو كان وما زال محل تحفظات عدد غير قليل من الشخصيات والتيارات الوطنية والديمقراطية .وربما كان من أسوأ ما خلفه بريمر هو الصيغة التي بموجبها أسس مجلس الحكم ، حيث كرست واقعاً غير مألوف في العراق تمثل بالمحاصصة الطائقية والعرقية التي ظلت تتحكم بهيكلية بناء المؤسسات وشوهت الهوية الديمقراطية للعراق ومنحت الغطاء لبعض القوى للتهرب من بناء دولة مؤسسات مدنية قادرة فعلاً على النهوض بمهامها في خدمة المواطن وتقديم أفضل الخدمات له.
وبرغم ما تحقق للعراق من تطورات لا يمكن تجاهلها خاصة في مجال الحريات والسماح بتشكيل الأحزاب ووسائل الإعلام بمختلف أنواعها والدستور مع ما فيه من ملاحظات وإجراء الانتخابات وبروز دور منظمات المجتمع المدني نسبياً، إلا أن إصرار الكتل المهيمنة على استمرار العمل على وفق المحاصصة بأسوأ أنواعها حال دون نضوج برنامج وطني واضح يمكن أن يؤسس فعلياً لدولة مؤسسات حقيقية تتبنى مبدأ الفصل بين السلطات الثلاث: التشريعية والتنفيذية والقضائية وتفعّل عمل كل منها ،كما أن من الأهمية بمكان الإسراع بتشريع قانون انتخابات جديد يحقق الفوز لممثلي الشعب الحقيقيين ولمن يحصل فعلاً على أعلى الأصوات إضافة لتشريع قانون للأحزاب . ولا ندعي اكتشاف شيء جديد إذا ما قلنا إن الأزمة الحالية بكل معطياتها هي واحد من إفرازات عقلية الهيمنة وثقافة الإقصاء للآخر ومحاولة الانفراد باتخاذ القرارات المصيرية التي بدأت بوادرها تتضح تدريجياً عند البعض .
إن مراجعة لما حصل منذ 2003 ولحد الآن تؤشر مدى الحاجة إلى تغيير حقيقي، ففي الجانب السياسي يمكن أن نسجل بامتياز فشل النخب السياسية في التأسيس لنموذج ديمقراطي في المنطقة برغم تطبيق بعض أوجهها التي أشرنا إليها في المقدمة . غير أن الديمقراطية الحقة ليست انتخابات تثار الشكوك بشفافيتها ويتم استخدام المال السياسي ونفوذ السلطة وليست وسائل إعلام تجري محاولات تقييد حريتها بتشريعات أو اتهامات لا تستند إلى الواقع للمخالفة منها لبعض الممارسات السلطوية، كما أنها ليست قوانين يتم القفز عليها .. إنها ( أي الديمقراطية ) نظام سياسي واجتماعي يترجم فيه مضمون حكم الشعب بإجراءات، من أبرزها صيانة الحريات وسيادة القانون واحترامه والتمسك ببنود الدستور واحترام الآخر وتنظيم عمل مؤسسات الدولة لتكون في خدمة المواطن وليس لفرد أو حزب أو طبقة .. وهي باختصار تحتاج إلى ركائز وأسس ، أولها إشاعة الأمان عند أفراد المجتمع وإبعاد شبح الخوف والقلق من السلطة وأجهزتها.فما الذي تحقق من كل ذلك ؟!
لا نستغرب أن نجد من يسطّر لنا الإنجازات ،غير أن الواقع هو غير ذلك تماماً، وربما ما حصل ويحصل من إخفاقات أكبر دليل على ما نقول ، فالخطاب السياسي غير موحد ، ما سمح لقوى إقليمية من خرق حصوننا الأمنية ، إن كان لدينا مثل هذه الحصون فعلاً ، وصراع حلفاء الأمس وبروز الطائقية السياسية السمة البارزة في المشهد السياسي الذي طغت عليه الأزمات ما أدى إلى تفاقم الأوضاع وفقدان الثقة عند الملايين بإمكانية الإصلاح في ظل محاولات واضحة للاستئثار بالسلطة وتجاهل حقيقة أن العراق لا يمكن أن يدار ويحكم بهذه الطريقة التي لم يعد لها من مكان في العالم وانسحاب وزراء التيار الصدري من الحكومة وما سبقه من انسحابات للقائمة العراقية والتحالف الكردستاني يؤكد الحاجة إلى مراجعة شاملة لجوهر وصلب العملية السياسية والوقوف على الأسباب الحقيقية لهذه الهشاشة التي وصلت إليها وكان من نتائجها عدم فاعلية مجلس النواب والتشكيك بنزاهة القضاء حتى من قبل منظمات دولية واستمرار محاولات تسخير الهيئات المستقلة لصالح السلطة واستمرار تسليم القيادات الأمنية والمواقع والمناصب الخاصة إلى الأتباع من دون موافقة مجلس النواب حتى صار يشاع على الحكومة مصطلح " حكومة الو واو ".
هذا الواقع السياسي المأزوم دوماً ألقى بظلاله على مجمل القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية ،فبقي البلد من دون خطة تنموية واضحة ولم نعد ندري على وفق أية رؤى يسير اقتصادنا، فنحن من دون منهج واضح ولا نظرية ،ويبدو أن الاجتهادات هي سيدة هذا الموقف المضطرب الذي يدفع ثمنه المواطن وحده . ونفس الشيء ينطبق على الحالة الاجتماعية، حيث ازدادت نسب الطلاق والتجارة بالمخدرات وتعاطيها وسط الشباب خاصة في مناطق فقيرة ما بعكس حجم الظلم والحيف الذي ما زالت تتعرض له هذه الشريحة المضحية. وإذا أضفنا إلى كل ذلك نسبة الأرامل والأيتام وأطفال الشوارع أدركنا حجم الخيبة التي أوصلتنا إليها محاولات التفرد والاستئثار .
بعد كل هذا هل انعدمت الحلول ؟
يطرح البعض خيارات غير واقعية لا تتناسب والواقع الذي تفرضه حالة التنوع العراقية، ومنها حكومة الأغلبية التي هي طبيعية جداً في أوضاع أخرى، بل ضرورية وأسلوب ناجح ، لكننا في العراق وفي هذه المرحلة أكثر ما نحتاج إلى اعتماد أسلوب الشراكة الوطنية وتكريس مبدأ التداول السلمي للسلطة ، وترسيخ مبدأ الثقة التي ما زالت غائية عن واقعنا مع الأسف . وفي ضوء الأزمة الحالية يبدو أننا أحوج ما نكون إلى حوار شامل وواسع تشترك فيه كل القوى والشخصيات الوطنية والديمقراطية .. مؤتمر يبتعد فيه الجميع عن أسلوب الحلول السطحية " الترقيعية " ويناقش فيه جوهر ولب المشكلات بكل وضوح، ومن أبرزها تسخير السلطة لحزب واحد ومحاولة العودة بالعراق إلى زمن الدكتاتورية ورسم برنامج عمل يرسخ لبناء دولة مؤسسات مدنية تكون الديمقراطية هويتها بشكل واضح لا لبس فيه ،ولا نظن أن ذلك ممكن أن يتحقق من دون إعادة الدور للتيارات الوطنية التي ما زال دورها هامشياً مع الأسف .
اترك تعليقك