((طوبى للذين يُحبّون الحياة))

((طوبى للذين يُحبّون الحياة))

إبراهيم،هذا العجائبي الذي قدم من عذوبة أزقة بغداد الذاهبة إلى دلال يفيض عليها وينشرها في بيوت رسمت سمراء.. لكن بياضها ابيض حتى غياب الفضة في أعراس المشتهيات..
كصديقه البغدادي الآخر هو اليوم يعيش مثل فنار سفن الأساطير- شاهداً لا ينام يراقب تبدلات المشهد، وخراب المدينة بعين الفجيعة، وبصيرة الخسران،... يتأمل ضياع مدينته..
بروح المندحر، ولكن بعناد المنتصرين الذين يرفعون رايتهم المنكسرة أعلى فأعلى، وأعلى، في ليل يغدر بهم كل ليلة، وهم في كل ما يجتاحهم من ظلام يراهنون على ما تبقى من ضوء شمعة يؤنس بين الخرائب به ان يضرموا الحرائق في ركام الأيام التالفة.
إبراهيم هذا الذي كان كصديقه لا يزال يسقي من ماء روحه زهرة اسماها (الأصدقاء).. (الشهيد سامي محمد، محسن اطيمش، الفنان عبد علي، سعدون اللامي، المغني الملحن كوكب حمزة وعيسى) وأخيرا أنا.. أصغرهم لهذا السبب ظل يوليني محبة خاصة، واهتمام كانا يقتضيان منه عينا ثالثة يتابع بها تطور مشروعي الشعري، ويراقب ورطتي في الحياة ان له – كطبيعة أولى وأعماق دافئة مع الذهب أكثر من وشيجة وأزيد من صفاء، وأبهى من ضوء يمنح أماسي الأصدقاء أجمل ما في القمر من حسن وقمر، لا تراه الناس الا في مرآة هور (الصحين) التي تشرق كنهارات بداية الزمان.
هو اليوم، وبانخذال فريد يتحدى وينتصر على جبرية يريدها الواقع والسياسي الذي صنعته المأساة والسخرية كي تكون لنهاية التاريخ، وهزيمته هنا معنى آخر ليس للمرارة أعماق مرارته المرة.
كل يوم لا يقترب من الرغيف الذي تصنعه بنار القلب زوجته الطيبة الا بعد ان يتأكد من اقتسامه مع صديق.
انه ينتظر.. وينتظر، وينتظر حتى يأتي احد منهم.
يا لها من عاصفة تحدث بسيارات المسؤولين وهي تمر حاملة عبوات ومتفجرات وقتلة محترفين أعيد تدريبهم في -معاهد ليست عراقية بالطبع- كي تزوّد الخبرة بشروط وقدرات جديدة تجعل كاتم الصوت صوتاً لايخطئ.
بيأس مرير.. مرير وبعد ان يتزود بما يجعل الحقد وطنياً، وعراقياً حتى النخاع، يعيد حساباته مع سياسي الخردة، ومغزى الاحتلال المقيم في كل تفاصيل القرار السياسي الحالي (سلطة ومعارضة) انه وهو يدير ظهره انهماكه لشارع الواقع المخزي، يراقب بطاقة المقدرة، والخبرة التي فيها كل تفاصيل الخراب والزبل اللذين صارا الآن عاصمة لبلاد جواد سليم ومحمد مكية وزها حديد وكامل الجادرجي والسياب وحسين مردان ونجيب المانع وعبد الجبار عبد الله والأب انستانس الكرملي، ومحمد باقر الصدر وسلام عادل وخليل شوقي وخليل المعاضيدي وعزيز علي ونزيهة الدليمي، والسومري الأول والبابلي الأول، والآشوري الأول.. وفي العموم الروح التي اتجهت بكلية ما تملك من طاقات نحو استقصاء معارف الكون وأسرار المجهول، واستجلاء الجوهر الحي للوجود الأبدي الذي لا ينتهي، ولا يموت.
برهوم الصبي الذي تعبق دشداشته برائحة أزمة (الفضل وصبابيغ الآل والصدرية) كالصيف يحمل خضرة الماء وعبق شباك السمك ويمضي الى أعماق تنشره في سمرة (دربونة) تغلق نفسها على محبة الجيران الذين لا يغلقون أبوابهم أبدا.. انه طفل البغددة، كصديقه الذي يشبه غرفته التي تشبه السموات والأرض، وهي كل بيته عمقاً وشرفة تذهب كل صباح عنه وعنها الى حديقة الماء لتأتي بالمشتهيات الكبرى من (بلم سلمان) صديق القمر والحزن والرياح الذين لا يعرف من حقائق الحياة ما تعلمه إياه حكمة الخمر، وما تزوده بك معارف البسيط والدافئ، وصديقه الذي يشبه (جرف الشواكه) ينتظر خطوة زينب التي لا تحضر الا في غياب موت يفضح عهر الحكومة.. ويصرخ عبد الرحمن شمسي..
(إشبيدي يا روح
فريتج اعلى الكون..)
صديقه (صلاح) ينتظر، وأغنية الليل في بلم سلمان تنتظر والشرقة والخطوة التي لا تجيء..
وبرهوم ينتظر الانتظارات جميعها، و؟؟؟؟ عجيب لا ينطفئ يراقب مجيء أصدقائه، ويخاف عليهم –من غياب مفاجئ- كأنه قلب أمهات الفجيعة كلما يعد الماضي والحاضر على ريش جناح عصافير جارته السدرة التي لم تعرفها اهتمامات أمانة بغداد.
(شجرة عظيمة
أم عظيمة)
ولا تعرفها السلطة.. ومتى كانت السلطة غير مثال صارخ للقذارة والنهب والغباء ويباب العقل الذي لا يريد من الحياة غير المال الحرام وغير التوسل بالفضائيات من أجل وقوف عابر، وبائس أمام كاميراتها المكررة التي لا تقول سوى فراغ يعيد إنتاج الفراغ.
انه يعد ما تبقى من أيامه بفرح طفل منذهل على جناح عصافير جارته (السدرة) مفتتا ما عنده من قلب ذلك الخبز الطري لها ولا يبتغي من وراء ذلك سوى ان يرعى رفيفها ليضاعف من مساحة الحرير والمرايا التي يتركها مرور الشمس من بين الأغصان القريبة التي له معها أكثر من حوار، وسر، وفرح يريه عظمة الحياة والصداقة والمحبة، وما يقوله تراب بغداد وتاريخها الطويل، لم ار عصافيراً تأمن وترتاح قرب قدمي إنسان وهو يقاسمها خبزه وماءه، كما رأيت عصافير سدرة إبراهيم قرب إبراهيم الذي لم يسرق كالحكومة، خبز أحد، لكنه يسرق من قلبه ما يعيد العصافير والظلال الى شوارع تحرس مرور الناس من الفتك والموت وصراخ سيارات البرلمانيين التي تسرق الشوارع وتستولي عليها مثلما تسرق ثروات البلاد وتستولي عليها وإبراهيم هو المال الذي نعود الليل من تعب الأيام وغربتها وألمها الطويل، في ذروة اندحار العمر يترنم بالقصائد ويحرس الأغاني انه بيت الوفاء وقد ربّى أولاده كعصافيره، وهيأهم للرفيق القادم الشفيف.
انه انتصار الحياة منذ هزيمة حلمه وقتله بسكاكين انقلابي 1963.... وحتى فاجعة هذا الحاضر الذي يصرّ على غيابه وغيابنا المؤلم، الدامي.
طوبى للذين يحبون الحياة
طوبى لإبراهيم وصلاح وعبد الرحمن شمسي
طوبى للصداقة
والحقيقة والمستقبل
والوفاء
والفطرة
والجمال.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top