بناء المدينة في العراق وفوضى الأشكال

بناء المدينة في العراق وفوضى الأشكال

إن العلاقة بين المبنى كمنشأ منفرد والمدينة كمجموع من جهة، وبين شكل المبنى كفرد في حاضرة المدينة وشكل المدينة ككل من جهة أخرى باعتبارها نتاجاً لهذه الأشكال والعلاقات في ما بينها، هي علاقة وثيقة ومترابطة إلى حد تصبح معه العمارة والتخطيط الحضري أشبه بعلاقات شكلية. كما أن الأثر الأبلغ الذي تتركه المدينة على المتلقي – الساكن والزائر والسائح وغيرهم – يأتي مرافقا ً بشكل وثيق للعلاقات الشكلية لها. بالتأكيد أن للمدينة آثارا ً أخرى على المتلقي كطبيعة الحياة والحركة والفعاليات المنجزة فيها ودرجة سهولة استخدامها وآثارها النفسية المختلفة.

تعتمد العلاقات الشكلية ( Aspectual Connections ) للمدينة على عوامل ومبادئ شكلية متعددة استطاع الإنسان التوصل إليها بفطرته وملاحظته للطبيعة ومن خلال التطور العفوي ( Spontaneous Evolution ) لذائقته الشكلية ( Sense of Form) وخصوصا ً في المدن التي نشأت وتطورت بشكل عضوي ( Organic)، أو من خلال دراسته للطبيعة ولمنتجاته الفنية، ويحدث هذا عموما ً في المدن التي أنشأها الإنسان بخطط شاملة مسبقة ( Pre-planned Cities ). وفي كلا الحالتين فإن هذه العلاقات الشكلية تعكس طريقة ومدى فهم وإدراك الإنسان لمحيطه، وطريقة تذوقه لهذه العلاقات، وطريقة استعماله لها، إضافة إلى طريقة تنظيم مدينته وبيئته وحياته من خلالها. إنها معيار واضح وظاهر للمستوى الثقافي للمجتمع ولمدى انسجامه الذاتي.
من العوامل الشكلية ( Form Factors ) التي تمنح المبنى والمدينة أشكالها كما وتهيئ الأرضية المناسبة لتفاعلها بعضها مع بعض ؛ هيئة المبنى ( The Form )، وحجم المبنى وأبعاده ( The Dimensions )، ونوع المادة الإنشائية المستخدمة ( The Materials )، وملمس هذه المواد ( The Texture )، ولون المبنى ( The Colour ) الذي يعتبر عاملا ً معقدا ً جدا ً في طريقة تفاعله وأثره على المتلقي، ودرجة بساطة (Simplicity ) وتعقيد ( Complexity ) المبنى، ونقاء الشكل ( The Purity )، ودرجة شبه المبنى لتكوينات الطبيعة (Nature-Similarity )، وغيرها.
أما العلاقات الشكلية التي تتجاوز المبنى كوحدة معينة لتؤثر على طبيعة وشكل علاقاته بمجاوراته وبالتالي بالمدينة كمجموع فإنها عديدة، وعادة ما تكون آثارها واضحة إلى حد تؤدي معه إلى تغيير أثر العوامل الشكلية والصفات الخاصة ( Characters ) بالمبنى بطريقة فاعلة جدا ً، فمنزل بطابقين قد يبدو فخما ً مهيمنا ً في قرية صغيرة ولكنه يتحول إلى منزل عادي لا يلفت الأنظار في مدينة تكثر فيها المنازل الفخمة والمباني المتعددة الطوابق، ومبنى تغطي واجهاته صفائح الألمنيوم الملونة قد يبدو أنيقا ً في مدينة مثل لاس فيغاس، ولكنه سيكون قبيحا ً وشاذا َ عن بيئته في مدينة عريقة تضج بالتأريخ وتجاهد في سبيل الحفاظ على موروثها الغني. هذه القباحة وهذا الشذوذ اللذان وجدا أبواب مدن العراق مشرعة أمامهما حاليا ً،إذ تلعب مادة الكوبوند المظهر الشكلي الأكثر انتشارا ً لهذا الوباء.
أما العلاقات الشكلية ( Connections or Relations ) فقد تنحصر في المبنى أو في ما بين وحدات المدينة، ومن هذه العلاقات التناسب ( Proportions ) والتوازن ( Balance ) والتناظر ( Symmetry ) أو عدمه ( Asymmetry ) والمقياس ( Scale ) والتكرار ( Repetition ) والتغيير ( Variety ) والإيقاع ( Rhythm ) وغيرها، وهي علاقات فنية تحتاج إلى نوع من المعرفة لتشكيلها، كما أنها تحتاج إلى مستوى من الثقافة لإدراكها والتفاعل معها، ولكن هناك علاقات شكلية من نوع آخر لا تحتاج إلى ذلك المستوى من المهنية والمعرفة لإدراك آثارها وتدخل هذه العلاقات في الجانب الأخلاقي (Ethic ) والذوقي ( Esthetic ) في بناء المدينة قبل دخولها في الجانب التقني ( Technical ) والفني للعمارة والتخطيط، وأهمها احترام الطابع العام للمدينة ( The Common Style )، والتوافق ( Harmony ) مع البيئة المحيطة، والبناء ضمن حدود المقياس الإنساني ( The Human Scale ) بعيدا ً عن المبالغة والإفراط، والمشاركة في خلق بيئة ملائمة ( Sustainable Environment )، والعقلانية ( Rationality ) في تشكيل المبنى أو حتى في التفرد ( Spectacularly ) فيه، واحترام الموروث الحضاري ( Historical Heritage ) للمدينة ومجتمعها، إضافة إلى محاولة التجديد والتحديث ( modernization ) والابتكار ( Innovation ) وإيجاد حلول معمارية وتخطيطية جديدة ومبدعة ( Creative ). 
إن إدراك هذه المبادئ والعلاقات الشكلية سواء من قبل صانعها – المعمار والفنان والبنّاء وغيرهم - أو من قبل المستفيد منها – المواطن بصورة عامة - تخلق الأساس المشترك الذي يمكن من خلاله إيجاد النظام الذي تقوم عليه المدينة، والهيكل الموحد لتشكيلها وجعلها مدينة صالحة لإقامة فعاليات الحياة بشكل متوازن، مع الاحتفاظ بمدى كاف ومناسب للمرونة والخروج عن هذا النظام حين يتطلب الأمر، بشكل لا يثير الفوضى الشكلية فيها أو أي نوع آخر من الفوضى الخدمية منها أو التقنية أو غيرها.
فهل تمتلك مدننا المعاصرة في العراق مقومات هذا النظام الشكلي – موضع الحديث هنا -؟ وبعيدا ّ عن الفوضى والخروج والتفرد والتميز غير المبررة التي تنتهي بفوضى من الأشكال التي تعكس بشكل لا مفر منه فوضى المجتمع المنتج لها وفوضى الأفكار الكامنة وراءها.
من أوضح الأمور والقواعد الشكلية التي يمكن ملاحظتها في هيئة ( Aspect ) المدن العريقة كمثل لندن وروما وباريس ومعظم المدن القديمة في أوروبا إضافة إلى بعض مدن الشرق ،مثل أصفهان وأسطنبول هو ذلك النظام الشكلي الغالب على طابعها العام والوحدة ( Unity ) والانسجام ( Harmony ) والإيقاعات الشكلية المتناغمة إلى حد جعل فلاسفة العمارة ،أمثال Hegel (1770-1831) و John Ruskin (1819-1900) يصفون العمارة بأنها موسيقى متحجرة أو متجمدة. لقد صنعت هذه المدن أنظمتها الشكلية وبنيتها وحافظت عليها ولم تمنع من ولادة ونشوء حركات معمارية جديدة وتبني أنظمة شكلية أخرى واحتضان مبان متميزة متفردة في أشكالها، كاحتضان باريس لمبنى مركز بومبيدو للمعماريين Richard Rogers & Renzo Piano, 1977 واحتضان لندن لمبنى 30 St Mary Axe, 2003 للمعمار Norman Foster، وتقبل روما المتزمتة لعمارة Richard Meyer & Zaha Hadid ، وهناك بعض المدن التي قد تلتزم بأنظمة وقواعد شكلية قد تكون مزعجة جدا ً لمعماري متمكن وجريء ،كالإسباني Ricardo Bofill بالرغم من تبنيه لفلسفة عمارة مابعد الحداثة ( Post Modernism ) التي مزجت العمارة الحديثة بالميراث المعماري لحضارات سابقة ،أهمها ما قبل التأريخ ( Antiquity ) الذي مازال مشروعه المسمى ( Bofills Bage ) أي قوس بوفيل موضع رفض مهني وجماهيري في قلب العاصمة السويدية ستوكهولم.
لم تخل المدن العراقية العريقة كبغداد والبصرة والنجف والموصل من هذه الأنظمة الشكلية التي كانت تمنحها طابعا ً موحدا ً وإيقاعا ً عاما ً وبجمالية أخاذة ما انفك يعتز بها من شهدها وتعايش معها، ولقد كانت موضع أعجاب ودهشة كل قادم وزائر، وتلك لوحات المستشرقين تشهد بذلك، وقد كانت مرآة جلـيّة لوحدة المجتمع الذي أنتجها ومستوى وعيه وتفهمه للنظام والتعايش المشترك. اختفى ذلك النظام لتحل محله فوضى شكلية عارمة وذوق مبتذل في اختيار وتبني معظم تلك المبادئ والعوامل الشكلية كالهيئة واللون والمقياس وغيرها، ولتحطم تلك العلاقات الشكلية التي تساهم في إنتاج المدينة وتشكيلها.
قد يتحمل صنّاع العمارة – البلديات ومدارس العمارة والمعمار والبنّاء وآخرون – مسؤولية هذه الفوضى الشكلية من خلال التماهل والتساهل فيها والتشريع لها وتنفيذها وغض النظر عنها، ومن خلال عدم نشر الثقافة المؤسسة لإيقافها. ولكن ذلك لا يشفع للمجتمع التنصل من مسؤوليته في تقبل هذا النظام والعمل به واستساغته وإدراك فاعليته في إيجاد التوازن في الهيكل الحضري للمدينة. فإن ذات المدن العريقة المذكورة التي تميزت بهذه الوحدة بعيدا ً عن فوضى الأشكال صنعتها وأنتجتها الثقافة العامة والعرف العام والذوق المشترك ولم تكن تملك أنظمة بلدية واضحة أو مدارس معمارية تلقن لها تقاليدها المعمارية بنفس الشكل المعاصر.
قد تبدو هذه دعوة إلى نظام موحد أو إلى كبت الإبداعات الشكلية للعمارة في زمن تجتاحه ثورة شكلية – تبدو غير قابلة للسيطرة بشكل مخيف أحيانا ً - تسمى بالتفكيكية ( Deconstructivism ) يقودها معماريون يصعب انتقادهم ،أمثال Zaha Hadid, Frank Gehry, Rem Koolhaas, Daniel Libeskind, Coop Himmelblau .
ولكن لهذه الحركة ( Movement ) فلسفتها وقواعدها ومبادئها الشكلية ومبرراتها، ومع ذلك فإن الكثير من المدن العريقة مازالت تتحفظ في تقبلها لها، وخصوصا ً في مراكزها التأريخية القديمة، في حين قد تبنتها مدننا في العراق ومعماريونا بشكل سطحي غير مدرك ولا يدل إلا على أنه جزء من تيار الفوضى الشكلية التي تجتاح مدننا هذه. 
مهندس عمارة وتخطيط حضري

تعليقات الزوار

  • هند كامل

    حينما نختنق نتنفس حروفكم.. دمتم لنا

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top