نازك الملائكة الناقدة . . قراءة أوليّة في النقد الموضوعي

نازك الملائكة الناقدة . . قراءة أوليّة في النقد الموضوعي

قليلة هي الدراسات الموضوعية التي كُتبت عن الناقدة نازك الملائكة، وأقلُّ منها تلك الدراسات التي تسجِّل ما لها، وتنتقد ما عليها بجرأة ووضوح باستثناء دراسة "نازك الملائكة الناقدة" للدكتور الناقد عبد الرضا علي وبعض الدراسات الموضوعية الأخرى التي سنأتي على ذكرها تباعاً . فقد كُتبت عنها سلسلة من الدراسات النقدية الهجومية أو غير الموضوعية في أقل تقدير لعل أبرزها دراسة محمد النويهي المعنونة بـ " قضية الشعر الجديد" التي اتصفت بنَفَسها الهجومي الصارخ الذي أتى بحدّة على بعض انجازات الشاعرة وأفرغها من محتواها الأصيل فتركت أثراً سلبياً في المشهد النقدي العراقي بحيث انتقلت عدواه إلى عبد الجبار داود البصري الذي حاكى دراسة النويهي في كتابه "نازك الملائكة الشعر والنظرية" فأفرغها هو الآخر من محتواها النقدي مع سبق الترصد والإصرار هذه المرة.
أما كتاب ماجد أحمد السامرائي "نازك الملائكة الموجة القلقة" فقد قصّر في الوصول إلى الحقيقة كما يرى ناقدنا الحصيف عبد الرضا علي الذي لم يغمط حق بعض الدراسات النقدية الرصينة التي تصدّت لتجربة نازك الشعرية والنقدية على حدٍ سواء حيث أثنى على دراسة "الشعر العربي المعاصر قضاياه وظواهره الفنية والمعنوية" دامغاً إياها بالموضوعية في الطرح والتناول ومنوِّها بالكتاب التذكاري "نازك الملائكة دراسات في الشعر والشاعرة" الذي أسهم فيه نخبة من أساتذة الجامعات لما يتصف به من موضوعية ونَفَس منهجي واضح.
يتألف هذا الكتاب من تمهيد وأربعة فصول تلتها الخاتمة التي تضمنت الخلاصات والنتائج التي توصل إليها الباحث الدؤوب والمتواضع عبد الرضا علي الذي لا يدّعي أنه أغلق باب الاجتهاد دون الآخرين مهما امتلك من أدوات البحث والرؤية النقدية الثاقبة.
يحدّد الباحث عبد الرضا علي ثلاثة مقومات أساسية يجب توفرها في الناقد وأولها المؤهلات المُميَّزة بما فيها من استعداد فطري، واكتساب ثقافي واسع وعميق، ومعيار منهجي في التقويم والحكم. أما الشرط الثاني فيتمثل بامتلاك الناقد نظرية نقدية مرتبطة بحركة أدبية أو فنية أو بتيار فلسفي أو فكري، في حين يتمحور الشرط الثالث على أن تكون الاسهامات النقدية على درجة عالية من الجدة والابتكار بحيث تكشف عن موقف لم ينتبه إليه أحد من قبله، وتغيِّر نتيجة مسلّماً بها أو تؤصِّل ملمحاً جمالياً يفيد منه الآخرون في نتاجاتهم الإبداعية القادمة.
لم يهمل الناقد عبد الرضا علي الاشتراطات الأخرى التي وضعها نقاد آخرون بدءاً بابن سلّام الجمحي الذي رأى في الناقد الأصيل "القدرة على تمييز الجيّد من الرديء، والصحيح من الزائف" بواسطة "الاستعداد والحكم"، مروراً بعلي جواد الطاهر، وانتهاء بداود سلّوم وغيرهما من النقاد الذين يؤكدون على الاستعداد الفطري والمؤهلات العلمية المكتسبة إضافة إلى الثقافة العميقة والمتنوعة، فضلاً عن الإلمام بلغة أجنبية أو أكثر. يا تُرى، هل تمتلك نازك الملائكة كل هذه الاشتراطات النقدية أم أنها تفتقر إلى البعض منها؟ لقد درس الباحث عبد الرضا علي مؤهلاتها النقدية واكتشف أنها تمتلك استعداداً فطرياً واضحاً في العديد من الأجناس الإبداعية والنقدية، كما أنها تتقن اللغة الإنكليزية لأنها درست الأدب المقارن في أميركا، ودرّبت نفسها على كتابة المقالات النقدية، كما أنها حاولت تعلّم اللغتين اللاتينية والفرنسية للإطلال على ثقافات الشعوب الأخرى، وتعمقت في الفكر الفلسفي الذي انعكس على شعرها وكتاباتها النقدية، كما تأثرت بكتّاب عالميين كثر أبرزهم شيكسبير، بايرون، شيللي، كيتس، ووردزوورث، روبرت بروك، إليوت، ييتس، ديلان توماس، أدغار ألن بو، أوسكار وايلد وآخرين لا يسع المجال لذكرهم جميعاً. كما قرأت لعدد غير من الأدباء العالميين نذكر منهم جان ماري غويو، نيتشه، الفيلسوف أوغسطين، أندريه مالرو، ألبير كامو، سارتر، بيرانديلو، يوجين أونيل، آرثر ميللر، تينسي ويليامز وألبيرتو مورافيا، وترجمت لبعض الشعراء الذي تمحضهم حُباً من نوع خاص مثل  توماس غري وبايرون وروبرت بروك.
يتناول الناقد في الفصل الأول بمبحثيه الأول والثاني المنطلقات الفكرية والفنية حيث يدرس الدين والأخلاق والمضمون. وجدير ذكره أن نازك قد مرّت بمرحلة إلحاد أفضت بها إلى الحزن والعزلة والتشاؤم، لكنها انتهت بالإيمان إيماناً كاملاً قادها إلى التفاؤل والانفتاح على الآخرين. كما ناقشت في المبحث الأول قضية الأخلاق والفرق بين الأخلاق العربية والقيم الغربية حيث تتسيّد الروح في الأولى بينما يهيمن الجانب المادي على الثانية. وفيما يتعلق بالمضمون الذي دعت إليه نازك فقد مالت إليه أول الأمر باعتباره واحداً من العوامل الاجتماعية الموجبة، لكنها وازنت لاحقاً بين الشكل والمضمون واتهمت بالتوفيقية. أما المبحث الثاني فقد درس الباحث "الشعر الحر" ورصد عن كثب ثورتها العارمة على الأوزان القديمة متخذة من مقولة برناردشو "اللا قاعدة هي القاعدة الذهبية" داعية فيها إلى التجديد والابتكار، لكنها عادت وتنبأت بانحسار موجة الشعر الحر لاحتوائها على الغث من الشعر لمجرد اعتماده على الأوزان الحرة. كما درس الباحث موقفها من اللغة والقافية.
يتمحور الفصل الثاني من الكتاب على دراسة محاولات نازك في إبتداع المصطلحات النقدية من جهة وإبتداع بحور جديدة للشعر الحر. وفيما يتعلق بالمصطلحات النقدية فقد ابتدعت الأشطر السائبة، والبحور الصافية والممزوجة، والتشكيلات، والشعر الحر، وشعر الشطرين والتشبيه الطويل. أما المبحث الثاني فقد درس فيه الناقد عبد الرضا علي إبتداع نازك لبحور جديدة للشعر الحر وهي المخلّع المزيد، ومحاولاتها البندية، ومحاولاتها في الموفور.
يُعنى الفصل الثالث بنقد نازك في غير حركة الشعر الحر حيث توزعت الدراسة على ستة محاور وهي: الموضوع، والهيكل، والوزن، والصورة، والرمز، ومحور الفنون اللفظية. فالموضوع قد يكون في المديح أو الهجاء أو الغزل أو الفخر والحماسة وما إلى ذلك. أما الهيكل فهو الأسلوب الذي يختاره الشاعر لعرض الموضوع بحسب تعريف نازك، وهناك ثلاثة هياكل وهي الهيكل المسطّح والهرمي والذهني، فالأول يخلو من الحركة والزمن، والثاني يستند إلى الحركة والزمن، والثالث يشتمل على حركة لا تقترن بزمن. وفيما يتعلق بمحور الوزن فهو يتضمن الأوزان الآتية: الطويل، الوافر، السريع، المتقارب، وهناك أوزان مهملة مثل المنسرح، الخفيف المهذّب، الكامل الأحد، ومخلّع البسيط. يستغرب الدكتور عبد الرضا علي ألا تُعنى ناقدتنا بالصورة الشعرية على الرغم من أهميتها في بناء القصيدة، لكنها أوْلت الرمز أهمية خاصة ذلك لأن الإيهام جزء أساسي من حياة النفس البشرية، وهو يدل على معان مختبئة في نفس المبدع لا يريد البوح بها لكنها تجد طريقها بواسطة لا وعيه أو أحلامه الباطنية. أما المحور الأخير فهو الفنون اللفظية التي تتمثل بالتكرار والمناسبة والجناس ورد العجُز على الصدر.
يتضمّن الفصل الرابع والأخير كتابة نازك للقصة القصيرة والحوارية من جهة ونقدها الروائي والمسرحي من جهة أخرى، فقد كتبت ثلاث قصص قصيرة وهي "ياسمين" و "منحدر التل" و "قناديل لمندلي المقتولة"، أما الحواريات فقد كتبت "المقدمة الحوارية" و "الإبرة والقصيدة". أما القسم الثاني من هذا المبحث فقد خصصه الباحث عبد الرضا علي إلى نقد نازك الروائي حيث تصدّت لثلاث روايات معروفة وهي "الخندق الغميق" لسهيل إدريس، و "عبث الأقدار" لنجيب محفوظ، و "الشيخ والبحر" لأرنست همنغواي. كانت تبوب دراساتها النقدية على وفق التسلسل الآتي: التوطئة، الموضوع والحبكة، دراسة الشخصيات، دلالة الرموز، البناء الفني "أنواع التكنيك" ثم المآخذ. وفيما يتعلق بالنقد المسرحي فقد كتبت أربع دراسات مهمة تعطي صورة وافية لتقنياتها النقدية للنصوص المسرحية فقد كتبت عن "الأبعاد الأربعة في الأدب"، ومسرحية "الأيدي القذرة" لسارتر، ومسرحية "السلطان الحائر" لتوفيق الحكيم، ومسرحية "يا طالع الشجرة" للحكيم وكانت تدرس في هذه المسرحيات الزمن والشكل والأسلوب والشخصيات وفلسفة المؤلف في المسرحية، وإذا كانت المسرحية شعرية فإنها تركز على الجانب العروضي حيث تتناول أخطاء القافية، والتجوِّز في الوزن، والانتقال من وزن إلى ما سواه. توصل الدكتور عبد الرضا في هذا الفصل إلى نتيجة مفادها: لو أن هذا النقد الذي كتبته نازك في حقلي الرواية والمسرحية قد جمع في كتاب لكان وضعها مختلفاً ولأصبحت في مصاف النقاد المعروفين الذين يكتبون في النقد الروائي والمسرحي. بقي أن نقول إن هذا الكتاب يشكِّل إضافة حقيقية إلى تجربة نازك الملائكة التي تألقت في كتابة الشعر الحر ونقده من جهة، وكتابة القصة القصيرة والحوارية والنقد الروائي والمسرحي من جهة ثانية، ولعل فضل التعريف بها كقاصة وكاتبة حوارية وناقدة روائية ومسرحية يعود إلى الناقد الألمعي عبد الرضا علي الذي اكتشف جانباً لم ينتبه له أحد من النقاد من قبل.  

تعليقات الزوار

  • زهرة

    موفور الشكر موصول لسيادتكم على الطرح القيم، لكن كيف الحصول على هذا الكتاب من فضلكم... أحتاجه جدا في دراستي... وجزاكم الله خيرا

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top