إقامة المعنى وإتمام المرجع..قراءة في رواية  بعيدا عن العنكبوت ،حارستي حمامة واكره مدينتي

إقامة المعنى وإتمام المرجع..قراءة في رواية بعيدا عن العنكبوت ،حارستي حمامة واكره مدينتي

لا يمكن ان تواجه تلك المشاكل في النص الأدبي إلا بالقراءة، فالقارئ هو الذي يتمم إنجاز النص ويعطيه تحققه الفعلي. والقارئ لرواية فليحة حسن ((بعيداً عن العنكبوت، حارستي حمامة، واكره مدينتي)) الصادرة عن دار أراس- أربيل عام 2012 م، يقف حائراً أمام عنوان الرواية وأحداثها التي تبدو غير مترابطة قد يفهمها القارئ فهماً فكرياً اي رمزياً هنا او فهماً حرفياً هناك. ولو حاولنا ربط أركان العمل الروائي ببعضه من حدث وشخصيات وزمان ومكان واكتشاف شبكتها العلائقية، مع ملاحظة ان هذه الأركان تتراوح فيما بينها توهجاً واشعاعاً، مما قد يجعل أحدها ركيزة رئيسية يقوم عليها أساس العمل كله.
وقد ميز الرواية توازي ركنيين أساسيين على مستوى الأهمية، وهما الحدث والشخصية، فجاء من بعدها المكان والزمان. وعلى مستوى الحدث والشخصية، فيمكن استطلاع بؤرة النص من خلال المزاوجة بين حدثين رئيسيين تقوم عليهما أحمال الرواية كلها.
تبدأ الرواية بحدث استرجاعي تروي فيه الجدة لحفيديها التوأمين السياميين حدث ولادتهما ووفاة والدتهما عند الولادة. لتنتقل بؤرة الصراع الى الشخصية الرئيسية (الجدة) وصراعها من أجل إبقاء سر حفيديها الملتصقين بعيداً عن عيون المتطفلين ممن سيثيرهم رؤية طفلين ملتصقين، وربما يؤذونهما بعدهما مسخين غير طبيعيين، ضمن ثقافة لا تحتضن الغريب ولا تتقبله.
فما دلالة ولادة التوأمين السياميين؟ ولاستخلاص ما وراء التأويل يتحتم على الناقد اتباع منهجية مناسبة للقراءة، وقد اخترت منهجية ((رومان ياكوبسون)) التي تتناول العناصر من خلال المحورين الأفقي (التتابعي) والرأسي (التبادلي)، فكيف يأتي التأويل؟ ترتيب الأحداث على المحور التتابعي انطلاقاً من حدث ولادتهما وصولاً الى اكتشافهما شيئاً من بشاعة العالم الخارجي المتمثل بحدث ضرب الطفل لصديقه صاحب البالون وظهور الدم.. فأن الاحداث تبدو مفككة على هذا المستوى وغير قابلية للتأويل، أما ماهو قابل للتأويل والفهم فيأتي عند ترتيب الأحداث ترتيباً رأسياً (تبادلياً)، فالحدث الأول (الولادة) يوازي الحدث الأخير الخوف من العالم الخارجي وبشاعته، وردة فعل الشخصية الأولى في الحدث الأول (الجدة)، يوازي ردة فعل التوأمين في الحدث الأخير. فالصراع كان دوماً لإدامة الحياة واستمرارها حتى لو كانت مشوهة وغريبة كحياة الطفلين السياميين.
ففي علاقة بين الرمز والمرموز، تتوازى الجدة مع كل نساء الرواية بأنهن يعلمن جاهدات على البقاء أحياء مع من يحبون متنازلين عن اي رغبات جانبية لصالح حياة الآخرين...بينما يظهر الرجال كأشباح قاتمة تقتل وتعتصر الحياة وتشوهها. فأبن صاحبة الحمام التي عملت عندها الجدة كان يتلصص على خلوة النساء في الحمام وينتهك حرمة أجسادهن العارية، وزوج الجارة المحتضر يعترف بأنه قتل طفلاً صغيراً هو ابن بنت عمه لانها رفضت الزواج به بعد وفاة زوجها، وسائق التكسي يقتل العلوية وزوجها في حادث تهور لا معنى له.
اذن الرجال في الرواية مدانون يعتصرون قلوب من حولهم بخيانتهم وعدوانيتهم حتى اخر حدث في الرواية وهو اعتداء الطفل الصغير على طفل اخر بسبب غيرته منه ورغبته بالاستئثار ببالونه الملون. وما انتهاء الرواية بهذا الحدث الا نقطة الإشعاع التأويلي، التي يستخلص منها القارئ ما سيجري بعد ذلك من صراع.
ويبدو لي ان رمزية التوأمين السياميين تقترب من هذه الفكرة وهي التصاق الذكر بالأنثى الحتمي رغم رغبة كل منهما بالانفصال وادعاء الاكتمال الذاتي، واختلافهما في الرغبات والاهتمامات. لكن يظل هذا تفسيراً محتملاً، وكنت اتمنى لو عمقت الكاتبة هذا الرمز ليشمل ابعاداً إنسانية اكبر يجعل من قضية الالتصاق بالاخر المختلف جوهراً للحياة قبوله استمرار لها ورفضه نهاية حتمية للبقاء والتعايش. بقي ان نقف عند العنوان الذي يشمله الارباك بجمله الثلاث غير المرتبطة مع بعضها، تستفز وعي القارئ لمعرفة المفارقة والايحاء الذي تنطوي عليه دلالته ليكشف لنا المتن النصي بعد ان تكون الرواية قد قالت كل شيء وتوقف السرد تقريبا ،اذ تختصر جملتي العنوان الاولى بالعبارة الاتية ((صغيرين يشبهانها بالحمامة ويريان نفسيهما عنكبوتاً)) ص13.
فالطفلان يتصوران نفسيهما عنكبوتاً كبيراً لانهما ملتصقان من الصدر، والحمامة هي الجدة الحارسة التي تعتني بهما برقة الحمامة ودفئها. ثم جملة (اكره مدينتي) التي بقيت خارج حدود النص يستنتجها القارئ من الاحداث، فالمدينة قدمت موتاً وبشاعة في متن النص تمثل في موت الام عند الولادة وموت الاب والجد والعلوية وزوجها، وكان اول مشهد فطن له الطفلان خارج حدود غرفيهما مشهد الدم المتدفق من الطفل المعتدى عليه. لكن يظل غير واضح هل ان وعي الطفلين سيتحمل ان ينتقل هذا الإحساس الى المدينة التي يعيشان فيها وهما محصوران في عالم بيت الجدة!! أشك في ذلك. ولا أتصور ان كره المدينة ممكن ان يوضع على لسان الجدة لذات الأسباب التي ذكرت.
اذن العنوان ضمن السياق الكلي للرواية ينفصل عن مرجعه النصي الذي هو الرواية ولايكاد يكون مشتملاً عناصر الخطاب المكنى عنه بل يربك العلاقات الوظيفية بين المرجع والعنوان.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top