تأثير سنودن

آراء وأفكار 2013/07/05 10:01:00 م

تأثير سنودن



كانت التسريبات المستمرة لمعلومات سِرّية من قِبَل إدوارد سنودن، المقاول السابق لدى وكالة الأمن القومي في الولايات المتحدة، سبباً في استفزاز مناقشة محتدمة حول الخصوصية والقانون الدولي، وهي المناقشة التي طغت للأسف على البعد الجغرافي الستراتيجي لأفعاله. والواقع أن المعلومات التي كشف عنها سنودن حول برامج المراقبة التي تنفذها الولايات المتحدة، وصراعه المتواصل لتجنب تسليم المجرمين، تكشف أيضاً الكثير عن ممارسات الرئيس باراك أوباما في التعامل مع العلاقات الخارجية للولايات المتحدة.
لقد رفع باراك أوباما التوقعات في مختلف أنحاء العالم كما لم يفعل أي رئيس أميركي في بداية ولايته في الذاكرة الحديثة. غير أنه أثبت أنه في الأساس لا يهتم بغير القضايا الداخلية، الأمر الذي أدى إلى تحول السياسة الخارجية إلى رد الفعل وليس الفعل. وتسلط قضية سنودن الضوء على ثلاثة عناصر في هذا السياق: العلاقات الأميركية الروسية، ونفوذ الولايات المتحدة في أميركا الجنوبية، وعلاقات الولايات المتحدة بأوروبا.
ويدل تعامل الكرملين مع هذه القضية على حالة التوتر في العلاقات الأميركية الروسية. في أعقاب "إعادة الضبط" المشؤومة للعلاقات الثنائية، كانت روسيا حريصة على الحفاظ على مركزها العالمي كدولة مقابلة للولايات المتحدة، الأمر الذي دفع كثيرين على الجانبين إلى الارتداد إلى عقلية الحرب الباردة. وبوقوعها في هذا الفخ، زودت الولايات المتحدة الرئيس الروسي فلاديمير بوتن بمخزون لا نهاية له لتسجيل النقاط السياسية وتوطيد موقفه الداخلي.
إن بوتن ينظر إلى معاداة أميركا باعتبارها أداة فعّالة لمنع السخط المحلي. والواقع أن تطورات مثل استنان الكونجرس الأميركي لقانون ماجنتسكي الذي صور في روسيا بوصفه استفزازا، سمحت للكرملين بحشد الدعم في الداخل لاتخاذ تدابير انتقامية مثل فرض الحظر على تبني الأجانب، في حين وفرت الغطاء لقمع المعارضة في الداخل.
في أعقاب تدخل حلف شمال الأطلسي في ليبيا في عام 2011، والذي اعتبره الكرملين مثالاً آخر للتجاوزات الغربية، وكانت روسيا أكثر عدوانية في فرض نفسها دوليا، لمعارضة الولايات المتحدة في الأساس. ويتجلى هذا بوضوح في الدعم الروسي العنيد لنظام بشار الأسد في سوريا. كما كان رفض روسيا لتسليم سنودن، تحت ذريعة الالتزام الصارم بالقانون، بمثابة لكمة يوجهها بوتن إلى عين أوباما مرة أخرى ــ وهذه المرة وهو يتظاهر بأنه مدافع عن الشرعية وحقوق الإنسان.
ثم تعاظمت أهمية هذا الانقلاب في المشهد بادعاء بوتن الساخر بأن روسيا سوف تسمح لسنودن بالبقاء فقط إذا توقف عن تسريب المعلومات "الرامية إلى إلحاق الضرر بشركائنا الأميركيين". والراجح أن بوتن لا يعترض على إلحاق مثل هذا الضرر من وراء الأبواب المغلقة أثناء تبادل المعلومات مع أجهزة الأمن الروسية.
وعلاوة على ذلك فإن قضية سنودن تعزز من التصور بأن الولايات المتحدة تخسر نفوذها في أميركا الجنوبية. فباستثناءات قليلة ملحوظة، مثل سفير الولايات المتحدة إلى البرازيل توم شانون، كانت الدبلوماسية الأميركية تفتقر إلى الرؤية الستراتيجية في التعامل مع أميركا اللاتينية. وأتى انتخاب باراك أوباما في عام 2008 لكي يخلق توقعات كبرى في هذه المنطقة أيضا؛ ولكن النهج الذي سلكته إدارته كان متحفظاً في أفضل تقدير، وكان بليداً متباطئاً في أغلب الأحوال.
ورغم ارتفاع نفوذ الصين في أميركا اللاتينية إلى عنان السماء، فإن الولايات المتحدة ظلت على تحفظها وعدم اكتراثها. وقد صورت زيارة أوباما في مايو/أيار بوصفها جهداً لإعادة تنشيط العلاقات في سياق صعود منطقة آسيا والباسيفيكي. ومن المؤسف أن التوقعات والآمال التي ارتفعت أثناء ولاية أوباما الأولى قد تبددت الآن بالفعل.
على سبيل المثال، كانت الولايات المتحدة أكبر شريك تجاري للإكوادور، حيث تمثل أكثر من ثلث تجارتها الخارجية. مع هذا، وفي مواجهة احتمال أن تمنح الإكوادور سنودن حق اللجوء السياسي، استشعرت الولايات المتحدة الحاجة إلى التصرف السريع، حيث يعرض نائب الرئيس جو بايدن شخصياً حجة الولايات المتحدة على الرئيس الإكوادوري رافييل كوريا، حتى بعد أن أعلن أوباما أنه لن يشارك في مثل هذه المساومات بشأن تسليم المجرمين.
والواقع أن التهديد من قِبَل مسؤولين أميركيين بقطع المساعدات الهزيلة التي لن تتجاوز 12 مليون دولار لعام 2014 يدلل بوضوح أكبر على النهج الأخرق الذي تتبناه الولايات المتحدة. ويبدو أن معين مصادر النفوذ الأميركي التقليدية ــ قوتها الناعمة، وتحالفاتها الإقليمية، ونفوذها المالي ــ بدأ ينضب. والرسالة الموجهة إلى العالم واضحة: لم تعد الولايات المتحدة القوة الإقليمية التي ينبغي لها أن تكون عليها.
وأخيرا، بالعودة إلى أوروبا، فإن موقف أوباما الوقح في ما يتصل بالمراقبة الأميركية المزعومة للاتحاد الأوروبي وبلدانه الأعضاء يُظهِر أن الاستثناء الأميركي لا يزال باقياً وبخير حال. فبدلاً من الاعتراف بشرعية المخاوف الأوروبية، تجاهلها أوباما باعتبارها عَبَثا: "أنا أضمن لكم في العواصم الأوروبية أن هناك أناساً يهتمون، إن لم يكن بما تناولته على الإفطار، فعلى الأقل بالنقاط التي قد أتناولها في حديثي إذا التقيت بزعمائهم".
لا شك أن الولايات المتحدة لديها مصلحة في اكتساب نظرة تحليلية أعمق إلى عملية صنع القرار لدى حلفائها الأوروبيين، مقارنة بما يمكن اكتسابه ببساطة بإجراء اتصال هاتفي مع المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، على سبيل المثال. والقبول بأن ذلك التجسس هو في واقع الأمر مجرد جزء من أدوات الولايات المتحدة، يعني أن الأوروبيين يتقبلون حدوثه ولكن بشكل مسؤول. وتجاهل المخاوف الأوروبية بشأن الكيفية التي تم بها تنفيذ مثل هذه المراقبة، يعني أن أوباما برهن على تحليه بواحدة من أسوأ العادات الأميركية ــ التعامل مع أوروبا بغطرسة.
الواقع أن الأوروبيين أثاروا تساؤلات خطيرة حول ممارسات أجهزة الاستخبارات الأميركية. ويتراوح هذا من الافتقار إلى المهنية كما أظهر ضمناً السماح للمتعاقدين بإدارة مثل هذه الأعمال الحساسة إلى نهج عند التدخل الذي تتبناه أميركا الآن في التعامل مع حلفاء بعينهم، مثل المملكة المتحدة ونيوزيلندا، في حين تحيل العديد من حلفائها الآخرين ــ بما في ذلك أغلب دول الاتحاد الأوروبي ــ الى منزلة الجدير بالمراقبة. والمفارقة المريرة هنا هي أن أوروبا والولايات المتحدة في هذه اللحظة المشؤومة المفاجئة يطلقان أكثر مشاريعهما المشتركة أهمية منذ تأسيس منظمة حلف شمال الأطلسي ــ اتفاقية التجارة الحرة عبر الأطلسي. ومن أجل ضمان نجاحها، فهل من المبالغة حقاً أن نطلب من الولايات المتحدة أن تلعب دورها دولياً بقدر أكبر من المهارة والمهنية، وأن تعامل شركاءها باحترام؟

 وزيرة خارجية إسبانيا سابقا، ونائبة رئيس البنك الدولي سابقا، وعضو مجلس الدولة الأسباني حاليا. ترجمة: أمين علي.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top