المثقفون.. في بلدان اللجوء  الإنساني !

المثقفون.. في بلدان اللجوء الإنساني !

لا شك في أن المثقفين في البلدان النامية أكثـر وعياً و إدراكاً و أعلى صوتاً في الخطاب الوطني و النضال ضد الاستعمار من بسطاء الناس في هذه البلدان، غير أنهم أسرع منهم أيضاً، لأسباب أمنية أو لاعتبارات خاصة، إلى مغادرة بلدانهم في الأزمات السياسية الحادة و اللجوء بوجهٍ خاص إلى الدول الاستعمارية التي يعرفون جيداً أنها وراء خراب بلدانهم في مختلف مجالات الحياة ، و كأنهم يبتغون بالعيش فيها تعويضا منها لما تعرضوا له و بلدانهم من أذىً و تعسفٍ فادح!

و تلك مفارقة مؤلمة بامتياز و لا يبدو لها حل في المستقبل القريب على صعيد العلاقة بين هؤلاء المثقفين و خياراتهم الأخلاقية التي تتفق و توجهاتهم الفكرية. فقد حبك الاستعمار العالمي الخطة منذ أمدٍ بعيد لإبقاء البلدان المتخلفة على تخلفها، بل و أكثر من ذلك الآن بعد أن سلط عليها من أبنائها، إضافةً لصنيعته الإرهاب، أكثر الفئات تخلفاً، و أنفعها بالتالي لمصالحه الاقتصادية وفقاً لأفكارها المعادية أساساً للتقدم و التفكير الحر و الانفتاح على الحضارة الإنسانية. 
فهكذا لا تكون في هذه البلدان عقول متنورة فاعلة و كفاءات وطنية، لأنها تكون قد هاجرت، أو هُجِّرت بشكلٍ أو بآخر، إلى الولايات المتحدة و البلدان الأوروبية بوجه خاص لتستفيد منها هي، و لا تقوم في هذه البلدان صناعة أو زراعة متطورة، بعد خلوّها من الخبرات و تدمير بناها التحتية الضرورية للتقدم، و لا يقف أحد فيها بوجه المخططات الإمبريالية التخريبية، لأن الطريق سالك أمامها بفعل حاجة الناس إلى المنتجات الاقتصادية المستوردة بعد " خراب البصرة "، و انتشار الفساد و السلبية و التبعية للأجنبي في مختلف مفاصل الدولة و الحياة الاجتماعية. 
و هو أمر مهّدت له دول الاستعمار العالمي ستراتيجياً و تكتيكياً على مدى زمنٍ طويل، وفقاً لمراحل مختلفة ــ بدءاً بالاحتلال المباشر، ثم الاستقلال الزائف للبلدان المستعمَرة و تسليط الأشرار العملاء من أبنائها على حكمها بواجهة وطنية لكن بطريقة سيئة تجعل الناس يكرهون ما هو وطني و يرحبون بعودة الاستعمار، الذي يعود بالفعل لكن هذه المرة بانقلابات عسكرية وطنية و " مجلس قيادة ثورة " و تصفيات دموية ليس فيها احترام لأية " حقوق إنسان، أو ديمقراطية، أو حريات "، كالتي يُعرَف الغرب بها ظاهرياً و تحلم بها شعوب البلدان النامية. و هنا، و بعد أن يكون الاستعمار العالمي قد استنفد حاجته من هذه الدكتاتوريات، يأتي الدور في الخطة لمشاريع أوسع مثل الشرق الأوسط الكبير، ثم ثورات " الربيع العربي "، التي " ستأتي " للناس بحقوق الإنسان، و الديمقراطية، و الحريات المزعومة، مع الفوضى الخلاقة، و اللحى الكثّة، و التناحر الطائفي!
بينما يتفرج من بعيد، من لندن، و باريس، و نيويورك و غيرها من مدن الغرب السعيد بذلك كله، مثقفو هذه البلدان المحترقة، على خراب أوطانهم من خلال شاشات الفضائيات و الإنترنت، و هم يحتسون كؤوس السهرة، و يتوجعون " كثيراً " لما يجري، شاتمين فلاناً مرةً و علاناً مرةً أخرى لأنه غبي أو متخلف أو جاهل ليس له خبرة أو شهادة أو ثقافة كالتي لديهم، متجاهلين بالطبع أن الذي فعل و يفعل ذلك ببلدانهم هو البلد " الديمقراطي الحر " الذي يعيشون لاجئين فيه ويقدمون له ثمناً لذلك ما لديهم من ثقافة أو خبرة، إن وُجدت! 
و تلك مفارقة لا بد أن هناك مثقفين غير سعداء بها بالتأكيد، فما هم فيها إلا ضحايا تماماً كهؤلاء المكتوين بنار التخلف، و الهجمات الإرهابية، و سوء الأوضاع المعيشية، و الخوف الطائفي، و إن طاب العيش هناك، و لطُفَ الجو، و غنّت النفس الأمّارة بالحنين إلى مثل ذلك! 
و يجدر بالذكر أخيراً أن من بين هؤلاء المثقفين الذين يعيشون في دول الغرب، التي يا ما كتبوا عن إمبرياليتها، و جرائمها، و عدوانها على الشعوب، سواء من خلال نتاجهم الأدبي، أو مقالاتهم الصحفية، هناك كتّاب كبار مثل الروائية التشيلية الشهيرة إيزابيل أليندي التي قُتل عمها رئيس تشيلي في انقلاب 1973 و تقيم منذ سنين في الولايات المتحدة الأميركية، التي دبّرت ذلك الانقلاب المشؤوم، و الكاتب النيجيري وول سوينكا الذي سُجن في نيجيريا أيام الحرب الأهلية صنيعة المخابرات الأميركية " وكان له دور نشط في تاريخ نيجيريا السياسي و النضال من أجل الاستقلال عن بريطانيا العظمى ... " و عاش في بريطانيا هذه و يعيش اليوم في الولايات المتحدة الأميركية، و الكاتب المغربي الطاهر بن جلون الذي يقيم في فرنسا، المستعمِرة الدموية السابقة لبلده، و يصرّ مع هذا " على أنه كاتب فرنسي، وليس كاتبا مغربياً رغم أن الفرنسيين لا يعدون أدبه كذلك " كما جاء في الموسوعة الحرة! 
و هناك مئات بل آلاف من المثقفين أمثال هؤلاء، و منهم عراقيون، و لا فخر، في مختلف بلدان اللجوء " الإنساني " هذه، يعيشون مفارقة أخلاقية غريبة : مثقفون يكافحون الاستعمار و أذنابه في بلدانهم و يتعرضون للتنكيل و القمع الوحشي ثم يهربون ليعيشوا في نفس دول الاستعمار، التي بعثرتهم في أصقاع الدنيا، و قتلت أبناء جلدتهم و خرّبت، و لا تزال تخرّب، بلدانهم الأصلية!

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top