أفياء لم تعد تنبض في غَوْرها النجوم

طالب عبد العزيز 2013/08/31 10:01:00 م

أفياء لم تعد تنبض  في غَوْرها النجوم

لم يبق من أنشودة غابة نخل بدر شاكر السيّاب -الشاعر- وكل ما تغنّى به في قصائد مثل أنشودة المطر والنهر والموت وأفياء جيكور وسواها من القصائد، سوى ذكرى طائر ميت على حبل غسيل، فقد أخفقت الطبيعة خلال العقود الست الماضية بالاحتفاظ بما لديها من نخل وفاكهة وظلال، أخفقت لأنها لم تجد من يرعى بهاءها وفسحة الأمل التي نمت وترعرعت على ضفاف الأنهار هناك، في أبي الخصيب، في الأرض التي خصها الله ذات يوم لتكون الجنة، حيث تختلف الأطيار وتتباين الكركرات، حيث الشمس واطئة يعوزها أكثر من نهار كي تبلغ أشجار العنب وأقفاص الفاكهة والخضار وميازيب المطر.
لقد ذهبت إلى غير رجعة الأفياء التي لن تنبض في غوريهما النجوم بعد اليوم.أمسِ قال لي جاري الذي يسكن قطعة البستان الصغيرة التي بقيت حوالي البيت، بأن حنينه اليوم شدّه إلى صوت (الفروند)-آلة صعود النخل- وهو يتصادى على الجذوع، إلى أغاني الفلاحين والطوّاشين والنواطير والبلاّمة، حيث تعلو أصواتهم بين النخيل والأنهار في مثل الأيام هذه، حيث موسم جني التمر(الكصاص) ويقول متوجعاً: بأنه لم يعد يرى (الدراكيل) وهم جماعة العاملين على جني التمر (الكواصيص والذين على السفرة وعمال نقل الصناديق والطواشات وجيش العاملين الآخرين في الجواخين والمكابس من القادمين من العمارة والناصرية والمحمرة، يعبرون غابة الظلال التي كانت). ظل يقول الكثير عن الخرّاصين والضامنين والمكبّسين وحملة الزنابيل إلى العنابر، وأنا عاجز عن وصف مباهج الناس هنا في شهري آب وأيلول من كل عام، عاجز لأن كل ما أتذكره ويتذكره لم يعد قائماً.
أنا مفجوع يا ناس، لأن كلَّ ما كان حياة وبهجة صار ذكرى، حتى الإنسان لم يعد ذاك الذي كان، فقد تغيرت ملامحه، فصورة أبي الفلاح، صاعود النخل، الكاصوص، لا تشبهني أنا، ابنه، كانت ملامحُه من رُطَبٍ وعنب وأجاص .يخرج الكثير من البصريين أيام الجمع والعطل وأوقات الفراغ باتجاه الفاو والسيبة وسيحان والقرى الأخرى الواقعة على ضفة شط العرب الجنوبية لصيد السمك، حاملين خيوطهم وشباكهم وسناراتهم، ولأنه موسم صيد الشانك، واحد من أفضل أنواع السمك البصري، يعيش في البحر وشط العرب، يعاجل هؤلاء النهار والليل فالشمس تشرق على الصيادين المصطافين هناك، فهم يقصدون القرى تلك قبل ان تندلق جرة الشمس على الماء، الشمس المحرقة الرطبة الواقفة، لا رادع لها بعد أن أجهزت حرب الأعوام الثمانية على غابة النخل والفاكهة وأحالت الضفة الظليلة الوادعة ميداناً للبنادق والقنّاصة واحتراق الأجساد.
بين الأحراش والحفر الطينية المالحة في جزيرة الشاهينية رأيت أحدهم ينصب الفِخاخ وأقفاص الجريد الصيّادية، ذات البوابتين وقد غطّى رأسه بقماش سميك من الصوف والقطن، رأيته يطبق بأقفاصه تلك على بلبل يتيم قادم من جهة عبادان. هالني ما سمعته منه، يقول بانَّ البلابل البصرية المعروفة بتغريدها الجميل غادرت أبي الخصيب والفاو وسكنت ذاك الصوب في عبادان، حيث الظلال قديمة كما هي، فأصرخ: إنهم يقتلون البلابل. نكتب القطع هذه، التي بحسب بدر، الشاعر: (حشرجات الروح أكتبها قصائد لا أفيد) ونحن نعلم أنها لن تقرَّ في مسمع أحد من حكّام المدينة، ذلك لأنهم لا يقرأون ما نكتب، ولا يتوجعون لما نتوجع منه، ولأن المكان لم يعد ممكناً لتصوُره كائناً قبل نصف قرن من اليوم، بعد أن أجهزت النزوحات الكبرى عليه وأحالت الأفياء سباخا وقذارات. نكتب لأننا لا نريد أن نموت.منذ ان صارت الطريق سالكة بين البصرة وطهران، عبر القطار الصاعد من المحمرة إلى هناك بخاصة، صار البصريون يستمتعون من خلل النوافذ الزجاج بمشهد خضرة الحقول والبساتين وشلالات المياه النازلة من الجبال، بطعم الماء النازل عبر نهر الكارون، بطعم اللبن بالنعناع معبأً بالبلاستيك، بكثير من ما وزعته الطبيعة على سكان بلاد ما بين النهرين وبلاد فارس على حد سواء، ذلك لأن الحكام البصريين في العراق الجنوبي لم يحفظوا لطبيعة بلادهم نخلا ولا فاكهة ولا خضرة، حتى لكأن النخل لم ينبت في بلادهم، لكأن الظلال ما كانت مسرّات ومباهج لقلوبهم، وما وقفت على العراجين في بساتينهم البلابل.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top