بمناسبة مرور مئة عام على ولادته..علي الوردي.. أوهام النخبة وسسيولوجيا التاريخ

بمناسبة مرور مئة عام على ولادته..علي الوردي.. أوهام النخبة وسسيولوجيا التاريخ

لم تكن درابين الكاظمية الضيقة تدرك يوما بأن قدمي هذا الفتى الوردي بعد ان كانتا تجوسان مساماتها وأرصفتها وتربتها المعطرة بذكريات أناسها الطيبين والمتعبين والمحملة بعبق آل بيت النبوة والرسالة ستنطلق نحو أرصفة ومحطات وفضاءات شاسعة من الأخيلة والرؤى والاحلام والتصورات . 
الفتى الطموح والمتمرد على الأنساق والأطر والتقاويم ، والذي تخرج من مدرسة الحياة العراقية الضاجة بالحركة والإيقاع والتحولات قبل ان يتخرج من جامعات العراق ويكمل دراسة الماجستير في الجامعة الأمريكية في بيروت ثم يسافر بعدها للخارج من اجل إكمال الدكتوراه ، هذا العبقري الذي تميز بمنهجه الساخر والسلس في قراءة الظواهر الاجتماعية والتقلبات الخطيرة لمزاج الفرد والمجتمع خرج لنا بمجموعة من النظريات والفرضيات والأسس التي جعلته رائد بل ومؤسس علم الاجتماع الحديث بإخراجه الدرس الأكاديمي من دائرته الضيقة المتمثلة بقاعات الدرس والطلبة الى فضائه الأوسع والشامل وهو المجتمع ، لقد عاصر الوردي الكثير من أساتذة علم الاجتماع والمفكرين والباحثين أمثال قيس النوري واياد القزاز وحاتم الكعبي ولكنه كان متفردا بما يحمله من أفكار ورؤى وسلوك جعله مبدعا اشكالويا واستثنائيا بما تركه من نتاج غزير وأسلوب سلس وطرحه لملفات وقضايا أثارت جدلا ولغطا معرفيا ووجوديا لم تحسم نتائجه الى يومنا هذا .
لقد واجه علي الوردي حاله حال العديد من المجددين والباحثين عن الحقيقة مجموعة من التهم والانتقادات ومنها وصمه بالطائفية التي كان بعيدا عنها الى حد كبير وذلك عبر تجاوزه للمقدس وانتقاده لكثير من الخطابات الدينية المتشنجة والمغلوطة والعقائد التي تسيطر على الأفكار والمجتمع ، كما انتقد بأنه كان مستغرقا في التاريخ في حين انه كان يوظف الشواهد التاريخية لبيان حجته وتعزيز آرائه في قراءته للظاهرة الاجتماعية اضافة الى قراءته التاريخ من وجهة نظر سسيولوجية حيث اعتمدت قراءته للتاريخ الإسلامي على مجموعة من المواضيع الحساسة والمهمة وخاصة في مجال دولة الخلافة والمحن التي كانت تتعرض لها رموز الخلافة عبر مناقشته للعقائد التي تعد جزءا من المظاهر الاجتماعية ، كما اتهم بالقطرية في حين ان المنهج الذي تبناه كان متأثرا بقراءات مجموعة من كتاب امريكا وأوربا أمثال باشلار وماكس فيبر بالإضافة الى تأثره الكبير بالمفكر ابن خلدون الذي يقترب منه في الرؤية والمنهج الى حد كبير وكذلك تبنيه لمفهوم القطيعة الابستمولوجية لباشلار والتي قدمها ضمن اطر وأبعاد المجتمع العراقي مثل حركة الشارع وتلفظ المرأة في السوق وغيرها من الخصائص والسلوكيات .
ان خطوات الوصف والتحليل والنقد وهي عناصر الدراسة التاريخية تتجلى بارزة في كتاب لمحات من تاريخ العراق المعاصر الذي أصدره الوردي في الستينات ووضع بموجبه عددا من الفرضيات المتعلقة بالمجتمع العراقي وحاول تطبيقها والتي عبر بموجبها عن مرحلة انتقالية مهمة امتدت من السيطرة العثمانية الى ظهور الحداثة وكذلك تبنيه لمفهوم التناشز الاجتماعي الذي عبر فيه عن التناقض الموجود بين نظامين اجتماعيين اضافة الى كتابه وعاظ السلاطين الذي جاء فيه بقراءة جديدة للتاريخ الإسلامي عبر نظرة ثاقبة وشاملة ومن زوايا عدة ومناقشته لمفهوم الطبيعة والتطبع والذي أشار بموجبه الى ضرورة وضع تنظيم يراعي الحد من قدرات الإنسان الذي قد تتوفر فيه له بعض الظروف التي تجعله يتجاوز على المجتمع وكذلك مؤلفه المهم مهزلة العقل البشري وغيرها من الكتب والمؤلفات والآراء التي تطرقت الى أوهام وعقد الذات والنخبة و شكلت ركائز ما يسمى بعلم الاجتماع الحديث والتي ما زالت مثار اهتمام وإعجاب الكثير من الكتاب والباحثين والأكاديميين والذين رأوا فيها كتابات وآراء ناضجة ومهمة باعتمادها على مشاركة الآخر والخروج من الأطر المنهجية والأكاديمية عبر معالجات انثروبولوجية وسسيولوجية وقراءة دقيقة وواعية للتاريخ والأحداث .
مرور مئة عام على ولادة المفكر والسيسيولوجي الكبير علي الوردي تدعونا الى ضرورة إعادة قراءة نتاج ونظريات هذا المبدع والمثقف الأصيل لأن معظم الاطاريح والرسائل التي كتبت عن منجزه كانت في الثمانينات وتأثرت يومذاك الى حد بعيد بالمناخ السياسي المحتقن والمعروف بعدائه للآراء والأفكار الخارجة عن النسق الأبوي والاستبدادي لذا نعتقد بأنها لم تنصف الوردي الذي يعود له الفضل الكبير في قراءة وتوضيح ودراسة الكثير من الظواهر الاجتماعية والإنسانية المهمة والعميقة .

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top