(2-2)
إن أقطاب الصراع الآن تتمثل في القوة الشيعية العظمى وهي ايران مقابل مثلث (السعودية , قطر , تركيا) التي تشكل بمجموعها جبهة للدفاع عن " الحق السني " واستعادة امجاد الخلافة. والمشكلة ان هذا الصراع لا يتأسس على القيم المادية - او كما أشرت الى قيم حضارية - فليس لجهات المعارك الدائرة في سوريا طمعاً في ثرواتها , بل يضرب بجذوره في الماضي العريق والقيم الثقافية التي غرسها السلف الاول ، هناك خوف دائم من الفريقين من " احتلال " المنطقة عقائديا .
فايران تخشى من المد الاصولي الوهابي, والسعودية تخشى من تصدير التشيع. ومن سوء حظ العراق ان يقع وسط هذين البلدين, والذي انعكس حاضرا على سوريا.
في النصف الغربي من العالم يبرز اسم العرافة المشهور نوستر اداموس الذي تنبأ بأحداث كارثية وقعت كان من بينها الحربين العالميتين . وقد توصل الدكتور رذفورد مؤخرا الى فك شفرات احدى المخطوطات التي تركها اداموس باستخدام آخر تقنيات تحليل البيانات ووصل الى نموذج تنبؤي اسماه ( شفرة نوستر اداموس) وعند ذلك تبين له الخط الزمني المخفي للحرب العالمية الثالثة بالطريقة ذاتها التي ذكرها كيسنجر وجاك تالي في عصرنا. وتنبأ اداموس بظهور المسيح الدجال في ايران وخداعه لآيات الله وتنصيبه لرئيس جديد يتم اغتياله قبل اجتياح امريكا لإيران ، وقد علقت العرافة المصرية جوي عياد مؤخرا على ان تنبؤات اداموس مأخوذة من كتاب الجفر للامام علي , وهي بدورها تنبأت وفقاً للجفر بأحداث لم يصدقها حتى مقدم البرنامج لكنها وقعت كما قالت ومنها تنبؤها بسقوط محمد مرسي تبعا لأوصاف وردت بشأنه في الجفر... والله أعلم !
لكن روايات كتاب الجفر لا تلقى تأييداً لدى الشيعة لانهم يعتقدون بان الجفر من اسرار ائمة اهل البيت محفوظة لدى الامام المهدي ولا يمكن ان يطلع عليها احد بسبب طلاسمها المعقدة التي لا يفكها إلا الامام عند ظهوره.
تنبؤات اداموس برغم تطابقها مع الواقع الا انها لا تؤثر على سلوك الانسان الغربي مثلما تفعل احاديث آخر الزمان في انساننا ، بل ان التطور التكنولوجي المتسارع اخذ بفكر الغرب حتى بات الاعتقاد بعودة المسيح – وهي إحدى العقائد الراسخة في المسيحية- ليست ذات شأن يُذكر بالقدر نفسه الذي تؤكده عقيدة ظهور المهدي.
يقول ولتر ستيس عن الانسان الغربي ( ان صورة العالم عند رجل العصر الوسيط قد سيطر عليها الدين, في حين ان صورة العالم عند رجل العصر الحديث قد سيطر عليها العلم) ونظرا لهيمنة الدين على العقل في العصر الوسيط, فقد تنبأ دانتي بنهاية العالم عام 1800 للميلاد! (ولتر ستيس: الدين والعقل الحديث, 24- 25). لقد سيطر العلم والتقنية على حياة الانسان الى درجة الاستلاب الذاتي بحيث اصبح اداة تتلاعب بها الشركات العملاقة للانتاج وهو ما يسميه ماركوز بالتأليل – اي تحول البشر الى آلات - وهكذا فان الدين وعقيدة عودة المخلص الاخير على وجه الخصوص ليست جذرية في العقل الغربي لسيادة العقلانية فكرا وسلوكا الى درجة فاحشة وموغلة في الافراط . المفارقة ان هذا الافراط في العقلانية قد حوّل المجتمع الى اللاعقلانية بسبب استلاب الذات وتشييء الانسان بحيث غدا آلة بيـد التكنولوجيا. فــ( عقلانية المجتمع المعاصر هي في مبدئها لا عقلانية) (الانسان ذو البعد الواحد 30)، اما في مجتمعاتنا فان احاديث ظهور المهدي وما يسبقه من كوارث وحروب تتردد طوال اليوم والساعة في الحوارات الدينية وعلى المنابر والقنوات الفضائية. بل ان هناك قنوات ومواقع الكترونية مخصصة لهذا الأمر العظيم .
إن صورة العالم حسب التفكير الشرقي / العربي / الاسلامي دائرية تبدأ بنقطة معينة و "يجب" ان تنتهي من حيث بدأت . في الفكر الشيعي مثلا بدأت دولة العدل الالهي في الكوفة بإمامة علي ثم تنتهي بالكوفة في عصر الظهور واليوم الموعود على يـد المهدي الذي سيحكم العالم من تلك المدينة. فالعالم صورة متكاملة ونهائية بدأت ولا بـد من حلول النهاية. الفكر الغربي يرى العكس, فصورة العالم يراها العقل بشكل خط مستقيم يبدأ ولا ينتهي ( بعكس المأثورات المسيحية). فالعالم ليس مطلقا ولا متكاملا ويقوم الفكر على قاعدة الشك .
ان نقصان العالم هو الذي يؤدي الى المتاعب، وللتخلص من هذه المتاعب وتعقيدات المجتمع لابد من التفكير العلمي. والتطور العلمي استند على ان العالم ليس له من نهاية وإلا لتوقف العلم من لحظته الاولى. فـ (الحقيقة العلمية لا تكف عن التطور, ومهما بدا في اي وقت ان العلم قد وصل في موضوع معين الى رأي نهائي مستقر , فان التطور سرعان ما يتجاوز هذا الرأي ويستعيض عنه برأي جديد) ( فؤاد زكريا: التفكير العلمي, 19) .
ومنذ خمسينات القرن العشرين وضع كرين برينتون عبارة دقيقة وذات شأن عندما ذكر ان ( التحول في موقف الانسان الغربي من الكون وكل ما فيه, هو التحول من نعيم المسيحية في السماء بعد الموت الى النعيم العقلاني الطبيعي على هذه الارض الآن) واصبحت الحياة قائمة على عقيدة التقدم برغم الكوارث والحروب . فـ (الايمان بالتقدم على الرغم من حربين عالميتين وازمة اقتصادية طاحنة شهدتها ثلاثينات هذا القرن- اي العشرين – لا يزال يمثل الى حـد كبير جانبا من الطريقة التي يُربى عليها الامريكيون , وان قلة قليلة من الامريكيين تدرك ان هذا الاعتقاد ليس له مثيل في الماضي) (برينتون : تشكيل العقل الحديث, 177) .
التاريخ تشاؤمي وسينغلق يوما ما كما تفكر العقلية الشرقية, لكنه متفائل ومفتوح في العقل الغربي حتى طروحة "نهاية التاريخ" لفوكوياما تنسجم وهذا التفاؤل لانه لا يعني بالتاريخ تلك الاحداث المتعاقبة, وانما التاريخ بصورته الشمولية العامة الذي تهيمن فيه ايدلوجيا (هي الديمقراطية الليبرالية) وتسحق بقية الايدلوجيات . ويبدو عليه تأثره بهيغل في هذه الفكرة, يقول في كتابه ( ان الذي اشرت الى نهايته لم يكن التاريخ كتتابع للاحداث وانما التاريخ كمجرد مسار متماسك للتطور الذي يأخذ في الحساب تجربة جميع الشعوب في آنٍ معا ، هذه النظرة للتاريخ تقترب كثيرا من نظرة الفيلسوف الالماني الكبير هيغل) (نهاية التاريخ, 24).
التاريخ عندنا ينتهي بالحرب العالمية الثالثة ومن ثم ظهور المهدي , وهي ثقافة ورثناها من تراثنا واصبح عقيدة تمارس لأجله طقوس فلكلورية احتفائية كل عام، لكن التاريخ في الفكر الغربي ينتهي بحضارة تتسيد العالم هي الحضارة الغربية / الامريكية حسب طروحات فوكوياما وهنتغتون. والحرب المفترضة القادمة لن تكون نهاية العالم حسب هذا الفكر وانما تأكيد لسيطرة القوى العظمى التي ستفرض سياستها على العالم ليظل مفتوح النهايات.
استاذ علم الاجتماع – الجامعة المستنصرية
اترك تعليقك