مرت قبل أيام الذكرى الثانية بعد المئة لميلاد العالم العراقي الكبير عبد الجبار عبدالله (1911) والذكرى الرابعة والأربعون لرحيله (1969)، وسط تجاهل تام من حكام العراق (الجديد)، مثلما تجاهلوا مئويته وإرثه العلمي. وهم بموقفهم هذا يتنكرون لعالم عراقي فذ كرس جل حياته وطاقاته الإبداعية ومؤهلاته الأكاديمية وكفاءته العلمية النادرة في سبيل رقي شعبه ورفع اسم وطنه عالياً بين الأمم، ورحل بعيداً عنه.
انطلاقاً من تقديرهم العالي لمكانة العالم عبد الجبار عبدالله، انتقد الكثير من المثقفين العراقيين موقف الحكومة، برئاسة المالكي، وبقية المؤسسات المعنية، وعبروا عن امتعاضهم لهذا التجاهل المجحف بحق أحد أبرز رجال العلم العراقيين، معتبرينه (الموقف) دليلاً اَخر يؤكده المتنفذون في عراق اليوم بأنفسهم، بأن همهم اليومي وأولوياتهم لا علاقة لها، لا من قريب ولا من بعيد، بالعلم والعلماء، ولا بالكفاءات العلمية العراقية الراقية والمحترمة التي هي مفخرة للشعب والوطن، قدر اهتمامهم وصراعهم المستميت على السلطة والنفوذ والمال وتقاسم المغانم والامتيازات غير المشروعة، وإعلاء المصالح الشخصية والحزبية الضيقة، على حساب المصالح الوطنية العليا..
فخر واعتزاز
لكل العراقيين الأخيار
عبد الجبار عبدالله عالم كبير يعتز به كل عراقي أصيل. قال عنه الجواهري بحق:"أهز بك الجيل الذي لا تهزه نوابغه حتى تزور المقابرا"، وكتب عنه زميله وصديقه البروفيسور عبد الكريم الخضيري، بمناسبة مرور ربع قرن على رحيله، يقول: عبد الجبار عبدالله يذكرني بغاندي، حيث كان هادئاً في مشيته وطباعه،قليل الكلام، لكنه إذا تكلم نطق بحكمة.. كان متواضعاً، لا يعرف الكبرياء، رغم أنه قد بلغ قمة الإنجاز العلمي والأكاديمي..مقنعاً في مناقشاته بمنطق سليم، ورؤية سديدة. وعبّر د. إبراهيم العلاف عن رأي الكثيرين بالقول:"لا أعتقد أن ثمة أمرا يتفق عليه العراقيون جميعا مثل اعتزازهم وتقديرهم وإعجابهم بالأستاذ الدكتور عبدالجبار عبدالله، فالرجل كان عالما في تخصصه، مربيا متميزا، وباحثا نشيطا، ومؤلفا ثبتا وإنسانا فاضلا ودودا متواضعا. نهض بجامعة بغداد، فذاعت سمعتها الطيبة في أرجاء العالم. كتب عنه الكثير وكرم في حياته وبعد رحيله، لكن الحاجة إلى التذكير به لا تزال مطلوبة خاصة في مرحلتنا الحاضرة وأقصد بها مرحلة إعادة بناء العراق"..
لقد احتل العالم عبد الجبار عبدالله مكانته الطبيعية بين مشاهير العلماء المرموقين في العالم ودخل اسمه أكبر المعاجم العلمية.استطاع ان يدخل تخصصاً جديداً في علوم الجو سمي علم الميزومتيورولوجي Mesometeorology الذي أصبح في ما بعد فرعاً مهماً في علم الأنواء الجوية. وقد كُتب اسمه وبحوثه في الموسوعة العالمية المعروفة (من هو؟) التي تضم أشهر الأسماء للعلماء المخترعين في العالم. ولم يكن عبد الجبار"ظاهرة علمية عابرة في حياة العراقيين المعاصرين، بل هو شخصية وطنية وديمقراطية وتقدمية وعلمية تستحق دراسة توجهاتها الخاصة في هذا المجال".
خسارة لا تعوّض
كرمت قيادة ثورة 14 تموز المجيدة البروفيسور عبد الجبار عبد الله اعترافاً وتقديراً بكفاءته ومؤهلاته الأكاديمية والعلمية والإدارية، من خلال تعيينه أول رئيس لجامعة بغداد في ظل الثورة. وكان أهلاً للمسؤولية التي أنيطت به، فقد لعب دوراً كبيراً في توطيد الجامعة وتطويرها. وبجهوده اتسعت الجامعات ووصلت الى المحافظات الأخرى. وحصل تطور كبير في العملية التربوية والتعليمية والبحث العلمي الجاد. وقد ربط الدكتور عبد الجبار عبد الله العلم والتعليم بأهداف الثورة ربطاً عضوياً، دامجاً إياها بخططها وبرامجها الاقتصادية- الاجتماعية والصناعية والزراعية والثقافية..كانت الجامعة في أيام عالمنا الجليل مستقلة في عملها، لا تتدخل السياسة إلا في مساعدة الجامعات على النهوض بها علمياً وتوفير مستلزمات البحث للنهوض بها الى مصاف جامعات العالم المتقدم- بشهادة أ.د. عباس التميمي.
كما أن من يطلع على الأعمال والأبحاث التي قام بها د. عبد الجبار عبدالله، وكذلك على كتبه وترجماته ومقالاته العامة ونتاجه واَرائه وأفكاره في العملية التعليمية والتربوية يدرك القيمة الحقيقية لمكانته كعالم مرموق في مجال الأنواء الجوية، ويعرف أنه ريادي في بعض فروع هذا العلم، واستاذ جامعي ومربٍ وتربوي قل مثيله.عندئذ يفهم المرء مقدار الخسارة التي مني بها العراق لدى فقدانه عبدالجبار عبدالله.
قال العالمان برنارد هوروتس و جيمس اوبراني فيه عند وفاته: فقد وطن عبد الجبار عبد الله، العراق، بموته واحداً من أبرز علمائه. سيتذكره زملاؤه الذين أسعدهم الحظ في التعرف عليه شخصياً، كزملاء في المهنة وكأصدقاء، ليس فقط لمساهمته في علم الأنواء الجوية، وإنما أيضاً لخصائله الإنسانية الرفيعة.
لا أحد ينكر، سوى من هو حاقد أو جاحد أو متعصب أعمى(والعقل الضيق يقود دائماً الى التعصب- وفقاً لأرسطو) بأن عبد الجبار عبد الله هو أحد رجال العلم الأفذاذ، كرس حياته وكفاءاته العلمية والفكرية لخدمة شعبه ووطنه.إنه عالم فيزيائي مرموق، معروف على الصعيد العالمي، تعتز به الأوساط العلمية في العالم، وتخلد اسمه اعترافاً منها بما قدمه للبشرية من إنجازات علمية لا تنسى..
أما في العراق، فللأسف، الى اليوم ثمة ملايين من الناس الغارقين في جحيم الفكر الديني المتعصب، يجهلون اسمه ومكانته العلمية، بوصفه أثرا خالدا من آثار بلاد النهرين.. لكنه للأسف، أثر شمله الإهمال والنسيان والتجاهل، والنهب مثل بقية آثار وثروات العراق.. عبد الجبار عبد الله مفخرة للعراق ولشعبه، رفع اسم ومكانة العراق عالميا، فجوبه بإهانة كرامته على أيدي الحرس القومي، ومسخت مكانته بعد انقلاب البعث الفاشي في 8 شباط 1963، ليعكس مدى انحطاطهم وسقوط أخلاقهم. لكن عبد الجبار عبد الله ظل يسمو أبدا، وبقوا هم في حفر الرذيلة. بعدها انتظر 40 عاما، وهو مسجّى في قبره، ليكرّم بإطلاق اسمه على أحد شوارع بغداد، وإحدى قاعات جامعة بغداد.
منهج مستهجن
لم يستغرب المثقفون العراقيون من المتابعين عن كثب لموقف حكام العراق (الجديد) من ذكرى عبد الجبار عبدالله وتجاهلهم لإرثه العلمي الثري..المستغرب والمؤسف أكثر ان نجد بين المثقفين والسياسيين من يقف متفرجاً على المواقف السياسية والممارسات الممنهجة للقوى الطائفية المتنفذة، المتواصلة منذ سقوط النظام المقبور وحتى اليوم، الفاسحة المجال واسعاً للظواهر المنبوذة في المجتمع العراقي الأصيل، وفي مقدمتها الطائفية، وهيمنة المحاصصة على مرافق الدولة، بما فيها الجامعات والكليات، وفرض أشخاص عديمي الكفاءة إدارياً وفاشلين ومزوري شهادات، ودعم المتخلفين دراسياً، وتشجيع الغش في الامتحانات، وغيرها من عوامل الانحطاط الدراسي.
إن القوى المتنفذة والسياسيين والمثقفين الذين حولوا أنفسهم وعاظ سلاطين يتحملون المسؤولية عن كل ما يحصل، كما يكتب د.رشيد الخيون،:"من فواجع انتحال الشهادات، وادعاء المنازل العلمية، كعالم الذرة الكذاب مثلًا، وهو مجرد محلل كيمياوي في مركز الذرة لا عالم ذرة، وكذلك الأطباء الكذابين أيضاً، حيث تفسد الأبدان بفساد الطبيب. وسبق هذا ورافقه عمل حثيث لإفراغ البلد من الكفاءات العالية". وثمة أيد خفية في الدولة تعمل في هذا المنحى.فقد تم الكشف عن اغتيال نحو 500 عالم ومختص عراقي من شتى الديانات والطوائف منذ عام 2003، بحسب البيانات المتوفرة لدى الحكومة العراقية. وأوضح مصدر بأن"أغلب العلماء الذين تم اغتيالهم، لم يقتلوا لأسباب طائفية أو قومية وإنما قتلوا بفعل ميليشيات تابعة لأحزاب عراقية". ويشار الى أن السنوات المنصرمة شهدت مقتل كـــثير من الأطبــــاء والمختصين وعمداء الجـــامعــــات والأكاديميين العراقيين في عمليات عنف مجهولة المصدر. ويجري هذا في وقت تتم فيه، في كافة مرافق الدولة إشاعة المحاصصة الطائفية، وتشجيع الانتهازية، وتوطيد المحسوبية والمنسوبية، وإغراق مؤسسات الدولة بأصحاب الشهادات المزورة، وحماية المزورين، أسوة بحماية الفاسدين، وسراق المال العام، والمختلسين، والمرتشين.
هذا المنهج المستهجن، الذي أشاع المزيد من التخلف وتغييب العقل العراقي المبدع، يسير بالعراق نحو الهاوية السحيقة، ويطرح على المجتمع العراقي وقواه الخيرة السعي الجاد في الانتخابات القادمة لإزاحة الطائفيين والفاسدين والفاشلين والانتهازيين وكل المناوئين للحياة الديمقراطية الحقة، وإفهام الجميع بأن من يريد الخير للعراق ولعامة مواطنيه حقاً يجب أن يعمل جنباً الى جنب مع كل الخيرين ليحلوا محل المتنفذين الحاليين ولتقود العراق عناصر من التكنوقراط والإداريين والمفكرين والأكاديميين الذين هم بمواصفات الدكتور عبد الجبار عبدالله الذي لم يكن عالماً فذاً فحسب، وإنما شخصية وطنية ديمقراطية حقة، وإنساناً فاضلًا ذا خصال إنسانية رفيعة..
آن الأوان ليدرك الجميع أن عراق اليوم بحاجة ماسة إلى سياسيين وحكام وإداريين بغيرة عبد الجبار عبد الله الوطنية وتفانيه وإخلاصه وحرصه وحبه لوطنه.. يمتلكون حياديته وحكمته وحنكته وبراعته وتواضعه الجم رغم مكانته العلمية الرفيعة وما يمتلكه من تجربة وخبرة غنية، أكاديمية وعلمية وإدارية..
عتب على الجميع
لقد عبر الخيرون من العراقيين بمناسبة مئوية عالمنا الكبير عبد الجبار عبد الله عن اعتزازهم بمكانته، باعتباره مفخرة للشعب، ودللوا مرة أخرى بأنهم يكنون له كل الحب والتقدير، بل والتبجيل. ولم يكن ذلك مجرد إحساس وشعور، وإنما جسدوه عملياً بكل ما استطاعوا عليه، أفراداً ومؤسسات ومنظمات جماهيرية، بمبادرات وفعاليات ثقافية وجماهيرية عديدة قاموا بها في داخل العراق وخارجه..
المؤسف أن تمر الذكرى الحادية والثانية بعد المئة لميلاده دون أن نسمع أو نقرأ عن أية فعالية أقيمت بالمناسبة. والعتب موجّه للجميع الذين يدركون ان من حق عبد الجبار عبد الله على شعبه وعلى الحكومة أن يجري تكريمه في كل عام بما يستحقه، لتبرهن بأنها تحترم وتقدر العلماء العراقيين الذين خدموا شعبهم ووطنهم.
ولعل أبسط ما تقدمه الحكومة الحالية لعالمنا الجليل هو العناية بتراثه العلمي وتقديمه للأوساط العلمية والتعليمية والثقافية، العراقية والعربية والأجنبية، بما يليق ومكانته. وتعريف أجيالنا بسيرة حياته، بما ترك لها من إرث علمي وتعليمي وتربوي غني بالبحوث العلمية والأكاديمية الرصينة، اَخذين بنظر الاعتبار أن إرثه العلمي الذي يجهله الكثير من العراقيين والعرب يمكن جمعه بمساعدة الأوساط العلمية الأجنبية، خاصة الأمريكية..
فلئن رحل عالمنا الكبير غريباً،بعيداً عن وطنه، ليس من العدل والإنصاف ان يبقى إرثه العلمي غريباً على أبناء وبنات شعبه، وعلى من يجيدون اللغة العربية والكردية والإنكليزية..
آن للجهات العراقية المسؤولة ان تقوم بواجبها تجاهه، فتؤسس معهد أبحاث متخصصاً باسمه، وتجمع تراثه العلمي، وتصونه، وتضعه في متناول الباحثين والمهتمين، خاصة الشباب، الى جانب توظيف أفكاره وفلسفته في البحث العلمي وفي التربية والتعليم في خدمة عملية إعادة إعمار العراق وتطوير مؤسساته العلمية والبحثية والتعليمية نحو الازدهار والرقي..
وهذا أقل ما يستوجب أن تقوم به الدولة العراقية تكريماً لعالمنا الفذ عبد الجبار عبد الله!
*أكاديمي عراقي مقيم في السويد
تعليقات الزوار
النجم
ستبقى خالدا في القلب يا د.عبد الجبار
ابو علي
رحم الله الشهيد الزعيم عبد الكريم قاسم ورجالات حكمه ولعنات الله على البعثيين القتلة