في ندوة نظمتها مؤسسة الحوار الإنساني..واقع السينما العراقية بين مخرج وناقد

في ندوة نظمتها مؤسسة الحوار الإنساني..واقع السينما العراقية بين مخرج وناقد

نظّمت مؤسسة الحوار الإنساني بلندن أمسية ثقافية كُرِّست لواقع السينما العراقية. وقد أسهمَ فيها الناقد السينمائي فيصل عبدالله بدراسة مكثّفة غطّى فيها أبرز المحطات في تاريخ السينما العراقية. كما شارك المخرج السينمائي قاسم عبد بالحديث عن تجربة "مدرسة السينما والتلفزيون" ببغداد التي أسّسها بالاشتراك مع المخرجة السينمائية ميسون الباجه جي. ونظراً لطول هذه الندوة، وأهمية المعلومات التي وردت فيها أجد نفسي مضطراً للتركيز على ورقة الناقد فيصل عبدالله على أمل تغطية القسم الثاني من الندوة في مناسبة أخرى والتطرّق إلى الأفلام الوثائقية الأربعة التي عُرِضت في أثناء الندوة بوصفها نماذج جيدة تتوفر على بعض اشتراطات العمل الفني الناجح. أشار الناقد فيصل عبدالله في مُستهل حديثه "بأن السينما كفن تعبيري وإبداعي هي الأكثر تعقيداً من بين الفنون التعبيرية الأخرى" وهو يرى بأن السينما " تختصر جميع منجزات الحداثة الغربيّة"، بل أنها صنوّ لهذه المنجزات، وأكثرَ من ذلك فإن السينما تضمّ فنوناً إبداعية متعددة تصوغ لنا في خاتمة المطاف هذا الخطاب البصري الذي يسحر الألباب. يعتمد الفن السابع، من وجهة نظر عبدالله، على شرطين أساسيّين وهما "السلطة والمال"، ويقصد بالسلطة توفُّر حدّ مقبول من الاستقرار السياسي الذي يتيح بالنتيجة جواً معقولاً لحرية التعبير الإبداعي، واستدراج رؤوس الأموال التي تضمن ديمومة العملية الإنتاجية. يعتقد عبدالله بعدم إمكانية الحديث عن السينما من دون وجود الطبقة الوسطى من جهة وتوفِّر اشتراطات المجتمع المدني من جهة ثانية. وقد خلُصَ إلى القول: "بأن قصة السينما في العراق تختصر قصة التاريخ المعاصر لهذا البلد بتقلباته السياسية وانعطافاته الدراماتيكية". من هنا فإن الحديث عن واقع السينما العراقية لا يخلو من صعوبات جمّة أوّلها هو "الافتقار إلى التاريخ الموثَّق"، وندرة المؤرخين السينمائيين الذين يوثّقون ما يكتبه النقاد السينمائيون والصحافة السينمائية على حدٍّ سواء. وعلى وفق هذا التصوّر الدقيق فقد اعتمد عبدالله في تهيئة مضامين هذه الورقة على مصدرين أساسيين وهما "المعلومات المُتاحة على الإنترنت" و "الجهود التوثيقية للباحث السينمائي مهدي عبّاس". ويعتقد المُحاضر أن سرد هذه المعلومات الأساسية توفر مِهاداً جيداً للخروج ببعض الاستنتاجات المتعلّقة بالشأن السينمائي العراقي. فبين عامي 1909 و 1937 توقف المُحاضر عند خمس محطات أساسية تتعلّق الأولى بأول عرض سينمائي "سينماتوغراف" في دار الشفاء بجانب الكرخ في 26 تموز 1909، ثم تشيّيد عدد من الصالات السينمائية مثل "السنترال"، و"الرويال" و"الوطني، و "الزوراء"، وافتتاح صالات "الرشيد" و"الحمراء" و "الهلال" و"روكسي"، وأخيراً تشيّيد سينما "غازي" في منطقة الباب الشرقي. واللافت للانتباه أن الصالات المذكورة كانت تتباهى بوجود أماكن خاصة للعائلات التي تشاهد الأفلام السينمائية وتجد فيها متعة وفائدة وطقساً ثقافياً جديراً بالحضور. وفيما يتعلق بعدد صالات السينما في العراق فقد أحالنا المُحاضر إلى ثلاثة مصادر مهمة تؤكد سعيه إلى بلوغ الدقة في هذا الشأن، الأول هو موسوعة "تاريخ السينما في العالم" الصادر عام 1964 للناقد والمؤرخ جورج سادول الذي ذكر بأنّ عدد دور السينما في العراق قد بلغت "86" داراً، فيما يؤكد الباحث مهدي عبّاس بأن صالات السينما قد بلغت "70" صالة بحسب كتابه المعنوّن "كتابات في السينما العراقية" الصادر عام 1994. أما الناقد الفرنسي إيف تورافال فيشير في تناوله لواقع السينما العراقية الصادر عام 1994 أيضاً إلى أن عدد الصالات السينمائية قد بلغ "110" صالات. ومع أن الكتابين الأخيرين قد صدرا في عام واحد إلاّ أن الفرق في عدد الصالات كبير جداً وأن التأكد من عدد الصالات السينمائية في العراق ليس بالأمر العسير!
علامات فارقة
انتقى المُحاضر ثماني عشرة علامة فارقة من تاريخ السينما العراقية معتمداً فيها على النتائج التي توصّل إليها الباحث مهدي عباس، ومبيّناً فيها، تمثيلاً لا حصراً، أول عرض سينمائي ناطق في العراق وهو "ملك الموسيقى" الذي قُدِّم في سينما "الوطني" في 19 شباط / فبراير 1931، وأول شركة إنتاج سينمائي وهي "شركة أفلام بغداد المحدودة" التي أسّست عام 1943، وأول إنتاج عراقي هو فلم "عليا وعصام" للمخرج الفرنسي أندريه شاتان، وأول مجلة سينمائية هي مجلة "السينما" التي أسّسها كاميران حسني في أواسط الخمسينات من القرن الماضي، إلى أن نصل إلى إنتاج أول فيلم عراقي خالص هو "سعيد أفندي" عام 1957 الذي يُعّد علامة فارقة في تاريخ السينما العراقية وهو من إخراج كاميران حسني وبطولة زينب ويوسف العاني. ثم يشير المحاضر إلى أول روائي فيلم أنتجته مصلحة السينما والمسرح وهو فيلم "الجابي" عام1968  للمخرج جعفر علي، وإلى أول فلم عربي صوِّر في العراق عام 1947 وهو "مغامرات عنتر وعبلة" للمخرج صلاح أبو سيف، وإلى أول فيلم عالمي صوِّر في العراق عام 1948 هو فيلم "طارد الأرواح الشرّيرة" للمخرج الأميركي وليم فريدكين، وأول فيلم ملوّن هو "نبوخذ نصّر" لكامل العزاوي. ثم يشير المحاضر إلى أول فيلم حصل على جائزة هو فيلم "الحارس" بطولة زينب وإخراج الفنان خليل شوقي الذي جسّد العديد من الأدوار السينمائية وحصد جائزة التانيت الفضي في مهرجان قرطاج السينمائي عام 1968. ثم يمضي المحاضر في اقتباساته من الباحث مهدي عباس إلى أن أول فيلم مع دولة أجنبية كان يحمل عنوان "طاهر وزهرة" عام 1952. أما أفشل فيلم عراقي فهو "حمد وحمود" 1984 بطولة الفنان حسين نعمة وإخراج الراحل إبراهيم جلال. ثم يشير الناقد فيصل عبدالله إلى ما توصل إليه الباحث مهدي عباس بأن مجموع ما أنتجه القطاع العام في العراق هو "44"  فيلماً سينمائياً وهو عدد ضئيل جداً قياساً بما أنتجه إقليم كردستان منذ عام 1991 وحتى الآن، إذ بلغ إنتاجهم "52" فيلما سينمائياً الأمر الذي يكشف في أقل تقدير أن الحكومة الكردية تقدِّر الخطاب البصري، وتسعى لتعزيزه، وتقديمه إلى الجمهور سواء أكان كرديا أم عربيا أم عالميا. أشار المُحاضر في خاتمة المطاف إلى أن أكثر مخرج وقف وراء الكاميرا هو محمد شكري جميل الذي أنجز "11" فيلماً وأكثر مدير تصوير حضوراً هو  نهاد علي الذي صوّر "18" فيلماً، فيما منْتَجَ صاحب حدّاد "19" فيلما.
خلاصات
توصل الناقد فيصل عبدالله إلى عشر نتائج أسفرت عنها هذه الورقة النقدية من بينها أن السينما العراقية تخلفت عن بقية الفنون القولية وغير القولية. وهي فوكلور القرن العشرين، وتسعى لتجاوز الثوابت، والتحرّك في الفضاءات الحرة التي تعبّر عن نوازع الإنسان الداخلية والمكتومة وإظهارها إلى العلن من دون خوف أو تردّد أو حرج، فلا غرابة أن تتقاطع مع سلسلة الاعتبارات الدينية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية. هيمنة القطاع العام، وانحسار الطبقة الوسطى من الحياة المدنية التي تحتاجها مجمل الأجناس الإبداعية. عزوف العوائل عن ارتياد الصالات السينمائية بسبب سوء سلوك بعض المشاهدين في أثناء العرض السينمائي. غياب ظاهرة النجم السينمائي العراقي وما تتطلبه النجومية من أخبار مثيرة تتصدر الصحف والمجلات الفنية. الأعباء الجديدة التي أضافها دخول التقنيات الحديثة على كاهل المشتغلين في الحقل السينمائي. انحسار دور العرض السينمائي في العراق إلى أربع صالات سينمائية تفتقر إلى أبسط شروط الراحة والأمان. عدم تأثير السينما على سلوك الأفراد وطريقة فهمهم للحياة. غلبة سينما المؤلف على الاقتباسات الأدبية، وتفضيل عملية البوح الفردي على العمل الجماعي. أما الاستنتاج العاشر والأخير فهو وجود أكثر من جيل لم يلج صالة العرض السينمائي في حياته، خصوصاً خلال العقدين الماضيين، ومثل هذا العزوف عن الثقافة البصرية يكشف الكثير عن واقع الحياة المدينية المتردية في العراق.
توصيات
استعان الناقد فيصل عبدالله بورقة عمل قدّمها شقيقه الشهيد كامل شياع وقد تضمنت بداية عملية يمكن تبّنيها في المرحلة القادمة، وأبرز هذه التوصيات هي فصل السينما عن المسرح، وإنشاء مؤسسة حديثة للسينما على أن يترأس مفاصلها الأساسية أكاديميون من ذوي الخبرات الرصينة. وأن تدعم السينما العراقية بكوادر علمية كفوءة يتم إيفادها إلى الخارج، بين أوان وآخر، لغرض التدريب، كما يتم استقدام الخبراء والمختصين من المؤسسات السينمائية العالمية بهدف تطوير الكوادر المحلية وتلاقح الأفكار. ولتفعيل هذه التوصيات ينبغي إنشاء صالات سينمائية حديثة تتوفر على أحدث التقنيات المتطورة، وعرض الأفلام الجادة والمتميزة، وإلزام هذه الدور بعرض الأفلام السينمائية العراقية. ولتعميم ما سبق ذكره من نتائج وتوصيات اقترح المحاضر الاستفادة من التجارب السينمائية العربية والعالمية، وتنشيط عرض الأفلام في المدارس، وإنشاء صندوق لدعم السينما يعتمد في تمويله على الدولة إضافة إلى مصادر أخرى. وإصدار مجلة سينمائية متخصصة، وتفعيل المشاركة في المهرجانات السينمائية العربية والعالمية، وتخصيص جائزة الدولة التشجيعية السنوية للإنتاج السينمائي في مختلف الاختصاصات.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top