يبدو ان الحديث عن الارهاب يتجاوز المعطى السياسي، ليكون الاقرب الى المعطى الثقافي، فالارهاب بات سلوكا وموقفا وثقافة صيانية لجماعات معينة، تعبّر من خلالها عن منظورها لمفهوم الحكم، ولقيم الديمقراطية والحرية والدولة والتعددية والحقوق المدنية وغيرها..
واذا كانت صناعة الجماعات تعد عملا امريكيا كما اعترفت هيلاري كلنتون، فان التخلص من اثار هذه الصناعة خرج عن السيطرة وبات عملا خطيرا، ومنهكا، لان هذه الصناعة تحولت الى مؤسسة جهادية، والى مؤسسة لها مصالح واتجاهات وجماعات وعلاقات مع الدول، ولها تأثير على مجرى السياسات في المنطقة وفي العالم..
واذا كان الرئيس الامريكي باراك اوباما يعد بان سيطرته على الارهاب العالمي من اهم انجازاته، فانه يجسد العكس الذي تركه الرئيس السابق بوش من تهويلات جذّرت فعل الارهاب في المنطقة بوصفه تحديا للمركزة الامريكية من جانب، ونوعا من الشرعنة للوقوف بوجه الهيمنة الامريكية التي غزت افغانستان والعراق، واسهمت في التمزّق المجتمعي للكثير من الدول.
قد لاتبدو الانجازات المضادة للارهاب والتي يتحدث عنها الامريكان حقيقية وواقعية، وذات بعد ستراتيجي، لانها اساسا تنطلق من وجهة نظر امنية ومصالحية بحتة، ولان امريكا لا تهتم بطبيعة هذا الارهاب وتأثيره على مجتمعات رخوة، بل تهتم به بوصفه عنصر تهديد للامن القومي الامريكي ولمصالحها الدولة، فالنظر الى تلك المجتمعات لايحمل معه نظرة اخلاقية طهرانية، لا هذه المجتمعات تعاني اصلا من مآزق تاريخية وتنموية وثقافية، مثلما هي محكومة تاريخيا من قبل مركزيات سياسية وايديولوجية ودينية، لها ارهابها الامني والسياسي، والتي عطلّت كثيرا نمو اي افق للحريات، وللبنيات المدنية، وللحقوق العامة والخاصة، وهو ما جعل هذه المجتمعات لاتملك الاليات الحمائية لمواجهة الثقافات العنفية، ذات مرجعيات اصولية..
التهويل الامريكي لمواجهة العنف تحول الى مأزق حقيقي لامريكا وللاخرين، وهو ذات المأزق الذي وقع فيه الاتحاد السوفيتي السابق في غزوه لافغانستان، لان فكرة السيطرة تصنع عنفا مضاد، ورفضا يستعين بقوة المجهول، قوة الماضي، وسحره الغرائبي في صنع الحشود وفي تبرير الموت والسيطرة، وهو ما اصاب المنطقة بكاملها بنوع من(الهلوسة العنفية) منذ بداية الصناعة الامريكية للعنف العقائدي في افغانستان بالتعاون مع السعودية وباكستان، وتسويقه على انه عنف جهادي ضد الشيوعيين الغزاة..
الحلول الاوبامية!!!
لعل الحديث الامريكي بالنسخة الاوباماية!! بان انهاء العنف يعني ممارسة الحرب الانتقائية، واستهداف قادة الجماعات بواسطة الطائرات دون طيار، وهذا طبعا لايعني سوى تهييج العنف باتجاه التخندق الصياني، وباتجاه التعبير عن ذلك بالعنف العشوائي، او ربما بالدعوة الى المزيد من الاصولية، والمزيد من التشرذم المجتمعي، لاسيما مع الاقليات الدينية والقومية والطائفية التي باتت ضحية لهذا العنف الاصولي، من منطلق اخضاع العنف الى قاعدة المركزة المضادة، اي عنف يقوم على فكرة العقيدة، والنص، والنقاء الفقهي، ولعل ما تتعرض له الجماعات المسيحية والاقليات الدينية والطائفية مثل الايزيديين والصابئة والشبك وحتى التركمان من عنف قصدي اسهم في تجريف مكوناتها من المنطقة التي تحولت الى منطقة مراكز عنفية مهيمنة..
عجز الحلول الامريكية وجد في ازمة السورية تعبيرا حقيقيا عن مأزقه، لان الضربة التي خضعت لحسابات سياسية، كانت ستتحول الى تهييج جماعاتي، والى اصطناع مجال صراعي مفتوح بين مكونات مازومة، يمكن ان تهدد الامن الاقتصادي العالمي، والممرات الستراتيجية، مثلما تبرر كثيرا الدفع باتجاه الصناعات العنفية واستشرائها في المنطقة، فضلا عن ما يمكن ان تثيره من استعادة لصور الحرب الباردة وللصراعات الدولتية التي ستضع العالم امام حروب افتراضية ماحقة دائما، وامام خنادق اديولوجية مرعبة..
كما ان هذا العجز وضع الامريكان امام تصور جديد للعلاقة مع الحلفاء القدامى، الحلفاء التابعين وليس الانداد، اذ ان هشاشة هذه العلاقة، وضعف هؤلاء الحلفاء وعدم قدرتهم على تجديد ادواتهم في التعاطي مع مشكلاتهم الداخلية على مستوى الحريات والحقوق وبناء الدولة العادلة، وضع المنظور الامريكي امام غموض الاستمرار في هذه العلاقة بصورتها النمطية، وهو ما يستدعي اعادة النظر الى التوازنات في المنطقة، وحسم الكثير من الملفات المعقدة وابرزها الملف النووي الايراني، والمسألة الفلسطينية، وهوية المنطقة مابعد احداث(الربيع العربي) خاصة في مصر، بوصفها دولة مفصلية ولها تأثير كبير على مجريات الصراع في المنطقة وخاصة تأثيراتها على اسرائيل.. ناهيك عن ان الرأي العام الامريكي لم يعد خاضعا للهياج الذي تركه بوش في اللاوعي الجمعي الامريكي بعد احداث برجي التجارة في نيويورك عام 2001، فهذا الرأي العام الفاعل والحيوي لم يستسغ التورط في حرب اخرى، تهدد الموازنة الامريكية، وتنعكس سلبا على الخدمات المجتمعية، وربما تزيد الضرائب على الامريكان، فضلا عن انعاكساتها على المزاج الامريكي القلق ازاء الخسائر البشرية في أفغانستان والعراق..
ان نزعة اوباما هي نزعة الاطمئنانات والبحث عن حلول جماعية، والحصول على موافقات دولية لاية حرب قادمة، وهو ما لايحدث ابدا، خاصة بعد الموقف البريطاني الرافض للحرب والرفض الالماني والتردد الفرنسي، لكن هذا لايعني بالمقابل نهاية للصناعة الجماعاتية للارهاب، لانه سيدفعه باتجاه ان يكون ارهابا اقليميا، وسيضع هذه الدول المشغولة باضطراباتها الداخلية امام صراع مفتوح ومشوه، وربما امام رعب هيمنة الجماعات العنفية على المشهد السياسي، وهو ما يمكن ان يحدث في ليبيا وتونس والصومال وحتى في سوريا، اي انه يعني ايجاد قوس من الازمات التي ستهدد المصالح الامريكية والاوربية في المنطقة، وستضع اسرائيل بين كماشات النار..
امريكا ومبررات
الحرب عن بعد!
كثيرا ما تسوّق الحكومة الامريكية حربها الجديدة على الارهاب من منطلق الحسابات البعيدة الامد، ومن زاوية نظر تتبنى تفكيك العدو ببطء، منها اعتماد سياسة الحصار والعزل، وتعليق المساعدات، والتطويق الامني، مثلما هو حادث مع ايران، فضلا عن اعتماد الضربات المسلحة الانتقائية عن بعد كما في اليمن وأفغانستان وحتى في دول افريقية اخرى مثل مالي، وطبعا هذه الحرب ستكون بخسائر اقل بشريا وماديا واخلاقيا، كما انها تستهدف القيادات العنفية العليا لهذه الجماعات في هذه الدول، وبما يعني تخفيف الاثر من نشوء جيل جديد من الاصوليين الذين هم اقل خبرة من الجيل السابق، وعلى وفق رؤية تتبنى سياسة القضم التدريجي للجماعات العنفية. لكن السؤال في هذا السياق ينطلق من مدى واقعية هذا المعطى؟ وهل سيكون رادعا من نشوء اجيال جديدة اكثر شراسة ووسط بيئات موحشة ومعزولة ثقافيا وسياسيا وتنمويا ومعرفيا وتعليميا، تتمركز فيها اصوليات حادة الطبع، لاتملك الاّ كراهية الاخر وتكفيره وقتله، وهو ما يعني سياسة فتح الخنادق الدائمة، وعزل الجماعات العنفية ليكون خطرها محليا وبعيدا عن مناطق المصالح الستراتيجية.. ولعل ماحدث في بنغازي من قتل شنيع للسفير الامريكي وعدد من الدبلوماسيين، وكذلك قيام الحكومة الامريكية بغلق العديد من سفراتها وبعثاتها في الخارج خوفا من عمل ارهابي، يعكس خطورة التصديق بواقعية سياسة القضم، وسياسة العزل، واحسب ان معطيات الواقع المأزوم في عديد الانظمة القلقة التي ظهرت مابعد احداث الربيع العربي، سيسهم ايضا في خلق تداعيات خطيرة على طبيعة الدور الامريكي في المنطقة، فبقدر ما خلقت ردود فعل غاضبة ازاء المتاهة السياسية التي تعيشها هذه الدول، وخطورة تنامي الجماعات الاسلاموية التي تهدد مشروع اي دولة ديمقراطية، فانها ستصنع واقعا جديدا، لاسيما بعد الغاء الضربة الامريكية لسوريا، لان هذا الواقع يعني بشكل او باخر بقاء النظام السوري، وتمكينه من القضاء على المعارضات المسلحة بما فيها الجماعات الاصولية، فضلا عن اعطاء دور جديد لروسيا في المنطقة ذات خصوصية اقتصادية وسياسية وعسكرية، قد يعيدها لعلاقات معينة مع مصر والجزائر وحتى ليبيا المتشظية الى جماعات حاكمة..
الارهاب والعراق
ان استشراء ظاهرة الارهاب العنفي باتجاهاته المتعددة الطائفية والشعبوية في العراق تحول الى عنصر مهدد للدولة، ولامكانية حدوث صراع مدني مفتوح، فرغم كل المواثيق والسياسات والمعالجات المقترحة، فان الجماعات مازالت تصر على سياسة التكفير والعنف الطائفي بشكل مرعب، وطبعا هذا العنف ليس بريئا من الاجندات، خاصة الاجندات الاقليمية والمال السياسي والمخابراتي، وهو مايعني الحاجة الى وقفة جادة ومراجعة اكثر جدية، لكل تعقيدات العملية السياسية، ولطبيعة المعالجات الامنية والثقافية، اذ مازال الواقع يفتقر لاية معاينة حقيقية بهذا الاتجاه، فوثيقة الشرف ومعاهدة السلم الاجتماعي التي وقعها السياسيون مؤخرا تخلو من اية اشارة للدور الثقافي في تعزيز قيم بناء الدولة، واشاعة ثقافة الديمقراطية والحقوق والعدالة، وهذا يعني ان المعالجات الداخلية مازال تفتقر كثيرا للبرامج الوضحة والعملية على المستويات كافة، بما فيها موضوع المراجعة والمصالحة واتخاذ الاجراءات الرادعة ضد الارهاب، كما ان المعالجات الخارجية مازالت هي الاخرى مركونة للنوايا، فالاتفاقية العراقية الامريكية تلزم الجانب المحتل بمسؤولية حماية العراق، واحسب ان هذا العنف اكثر توحشا حتى من الاحتلال نفسه، وهو ما يتطلب من الحكومة الطلب من امريكا لمنع الدول الاقليمية من التدخل بالشؤون العراقية ودعم الجماعات الارهاب لوجستيا وماديا وثقافيا، والعمل على الضغط باتجاه خلق بيئة سياسية امنة للحوار والتفاعل وتغليب المصالح..
اترك تعليقك