يمر الاقتصاد العراقي بمرحلة مأزومة بعد تعرضه إلى سلسلة من النكسات والنكبات ، خلال تاريخه المعاصر، إلى إن أصبح اليوم اقتصاداً ريعياً يعتمد على النفط في إيراداته الاقتصادية،دون وجود مؤشرات واضحة نحو بناء اقتصاد منتج يرسم ملامح تنمية بشرية واعدة، وأصبحت الدولة العراقية تقوم بدور أساسي هو توزيع المرتبات على الموظفين والعاملين في قطاعاتها المختلفة دون استطاعتها تأمين خدمات أساسية يحتاجها الإنسان العراقي في بيئاته المختلفة.
أولا: الاعتماد على النفط ،وغياب التجربة الذاتية.
وعليه لا أحد يستطيع الحديث عن تنمية حقيقية في ظل اقتصاد ريعي(الاعتماد على النفط فقط) وأن يقدم رؤية اجتماعية متكاملة ، بعد سلسلة من الحروب والأزمات التي عصفت بالبلاد خلال عقود من الزمن، أضعفت إمكانية الدولة في تحقيق تنمية متكاملة،وفي هذا الإطار يمكن إثارة تساؤلات عدة أهمها :متى تتوفر القدرة الفاعلة لدى الدولة على توظيف عائدات النفط في نهضة تنموية تبدأ بتأهيل الإنسان، وبناء بنية تحتية في عموم البلاد؟ ، وهل تستطيع الرؤى السياسية السائدة في الساحة العراقية اليوم ،بلورة فكرة دولة مدنية ذات اقتصاد منتج قوي؟ وهل تستطيع الدولة خلق حالة من الدفع الثقافي يزرع الأمل في نفوس الأجيال الحاضرة والمستقبلية في تحقيق نهضة حضارية عراقية ؟ .إن تقييماً علمياً موضوعياً للتنمية بين الاقتصاد الريعي ( كواقع حال ) وتحدي حقيقي إزاء بناء اقتصاد منتج،يمكن إن يكشف لنا عن العلاقة الجدلية بين الطموح للتنمية البشرية في تطويع الإمكانات المتوفرة وبإرادة قوية، وبين إمكانية تحقيق اقتصاد منتج يدفع بالعراق إلى التقدم والتطور الصناعي والزراعي و التجاري بأوسع أبوابه، ويكون مستندا إلى أيدلوجية أو فلسفة اجتماعية واقتصادية وطنية خالصة تطرح التجربة التنموية في العراق، كتجربة لها هويتها الوطنية، تأخذ مكانها بين التجارب على النطاق الإقليمي، ويجعلها قائمة ومؤثرة فيه حضاريا واقتصاديا، والعراق قادر على تحقيق هذا الدور، لاسيما وهو يمتلك الإمكانات التخطيطية والعلمية والبشرية والثروات الطبيعة الهائلة، ليس فقط على الاعتماد الذاتي( وهو ضروري) إنما أيضا بالتفاعل مع التجارب التنموية الإقليمية والعالمية والاستفادة منها، لاسيما تلك التجارب التي أجريت في مجتمعات مأزومة مثل اليابان وغيرها. وعلية فان فهم ذلك لا يمكن إن يكون إلا على وفق فلسفة( فكرة) تقوم عليها إرادة الإنسان العراقي ، تعبر عنه وعن تاريخه الحضاري الذي يعتز به ،على أن تقوم المعالجة على وفق التطور العلمي والتكنولوجي والمعلومات الهائلة التي حققها الإنسان المعاصر في المجتمعات المتقدمة، وبما يتيح الفرصة إمام الإنسان العراقي التفاعل مع معطياتها الحضارية، وبما يفسح له المجال العبور من حالة الاقتصاد الريعي إلى حالة الاقتصاد المنتج الذي سيعطي للتنمية استمرارية خلاقة، بما يمكن العراق من الدخول في مرحلة التنمية المستدامة .
ثانياً:الحاجة إلى اقتصاد منتج تبقى قائمة
لا يزال التساؤل الأساسي الذي يشغل بال العراقيين لعقود من الزمن ،هو، كيف يمكن إجراء تنمية بشرية متكاملة تؤدي إلى بناء اقتصاد منتج، والتخلص من الاقتصاد الريعي الذي أثقل كاهل الدولة والمجتمع معا ،لاسيما مع خضوع النفط إلى تقلب الأسعار العالمية صعودا وهبوطا، فالدولة العراقية في المرحلة الحالية، تعتمد على واردات النفط بشكل كبير جدا، مما يجعل الاقتصاد العراقي رهينة تقلبات أسعاره،ويزداد الأمر خطورة إذا علمنا إن العالم المتقدم يسعى بخطى حثيثة لإيجاد الطاقة النظيفة البديلة، فمراكز الأبحاث فيه تعمل على قدم وساق في سبيل ذلك،وربما يأتي اليوم الذي يستغني العالم المتقدم عن النفط بدرجة كبيرة،ما يوقع اقتصادنا بمأزق حقيقي، ما يحتم علينا التفكير جديا في الخروج من دائرة الاقتصاد الريعي إلى دائرة الاقتصاد المنتج، وتكون لنا موارد أخرى لا تقل أهمية من النفط، وهي عملية ليست سهلة إنما تتطلب تضافر الجهود المجتمعية والعلمية والسياسية ، لإجراء تنمية شاملة تنقل البلد إلى مرحلة الحداثة، وبناء هياكل الاقتصاد الأساسية في تكنولوجيا المعلومات والإنتاج الصناعي الوطني، إن ذلك يتطلب إجراءات جدية لعل أبرزها توفير قاعدة بيانات متكاملة عن المجتمع بقطاعاته كافة، و توظيف الموارد الاقتصادية اللازمة وتأهيل الإنسان تأهيلا يتلاءم ومتطلبات العصر، ثقافةً وعلماً، وكل ذلك لا يمكن إن يتحقق إلا بتوفر إرادة سياسية صلبة تؤمن بالتنمية والتغير الثقافي، وتقودها من اجل تحقيق النهضة الحضارية التي تجعل من العراق أنموذجا في منطقة الشرق الأوسط،
ثالثا: الاقتصاد الريعي وحاجتنا للتنمية.
يواجه الاقتصاد العراقي في المرحلة الحالية، تحديات ضخمة ، أبرزها تحدي التنمية، إذ لا يمكن تحقيق خطة تنموية دون أن تكون هناك رؤية اجتماعية وثقافية واضحة للمرحلة الانتقالية التي يمر بها المجتمع العراقي واقتصاده المأزوم،لأن ذلك ينطلق من حقيقية دامغة تتصل باحتياجات الإنسان المختلفة، والتي لا يمكن إشباعها في ظل المعطيات الموجودة على الساحة العراقية، لاسيما وسط الانقسامات الفئوية والطائفية والعرقية والمرتبطة بأطماع هذه الأطراف كافة . الأمر الذي يتطلب من الدولة مراجعة سياستها ،وبلورة سياسة وطنية عابرة للخلافات السياسية، تبدأ بمحاربة الفساد بكل أشكاله والعنف والإرهاب ،وكل ما يتصل بالأمن الاجتماعي، وتحقيق مصالحة وطنية حقيقية،وتفعيل ممارسة ديمقراطية قائمة على الثقة، والإيمان بمبادئها ، وتخليص البلد من مرض المحاصصة السياسية الطائفية والعرقية، الأمر الذي يهيئ الظروف الموضوعية لعملية تخطيط علمي لتنمية شاملة يكون هدفها رفاهية الإنسان العراقي من جهة، ورسم ملامح ثقافة مجتمعية قائمة على المواطنة والعدالة من جهة أخرى ، وان أهمية هذا التصور ستدفع المشتغلين بالاقتصاد والسياسة والاجتماع والعلوم الطبيعية إلى التفكير جديا في طرح تصور علمي يفضي إلى بناء التجربة التنموية العراقية المنتجة، بعد مرحلة مريرة من التراجع الحضاري . إن حاجة البلد إلى تنمية متكاملة تزداد ، يوما بعد آخر ،وتبقى مرتبطة بقدرة الدولة والمجتمع على تقديم رؤية اجتماعية لاقتصاد (مأزوم) على وفق القواعد الوطنية في تأهيل الإنسان علميا وفنيا، وتسليحه بثقافة تحديثية، تهيئ الظروف الناضجة لتحقيق عملية الانتقال المتوازن المدروس من حالة الاقتصاد الريعي إلى حالة الاقتصاد المنتج ، مع الإحاطة بمشكلات المجتمع ودراستها، وفهم الحلول المناسبة لها،وإن ذلك ممكن ،إذا علمنا أن العراق يمتلك ثروات هائلة، ولا تنقصه سوى الإرادة السياسية وبعث روح المحبة والتسامح بين أبناء مجتمعه ، والوصول إلى مستوى الدولة العصرية التي يتحرر فيها العقل من التعصب ويركز اهتمامه في البناء والتنمية والخير. وإن ذلك ممكنن في المرحلة الحالية ،وعلينا الإسراع للعمل من أجله، قبل إن تتفاقم الأزمات ،إذ ينبغي توحيد الخطاب السياسي وبناء التجربة التنموية المنتجة،القادرة على إعادة التوازن في المجتمع وتحقيق الاكتفاء الذاتي ،بحيث يجعلنا قادرين على تقييم أوضاعنا الداخلية برؤية موضوعية، و بناء السياج الوطني الكفيل بمنع إية تداعيات إقليمية قد تحصل.
إن هذا ليس بالأمر الهين لأن التركة الثقيلة التي ورثتها الدولة العراقية بعد عقود من الحروب ما تزال تترك آثارها السلبية على أي خطوة باتجاه التنمية، فضلا إلى عوامل سياسية وتحديات أمنية صعبة. إن التنمية في العراق أمام امتحان صعب يتطلب منا تهيئة الإنسان، وتأهيله وتخليصه قبل كل شيء، من حالة القلق والخوف اليومي الذي يعيشه ، فهو مرهق ومنكسر ويحتاج إلى تأهيل اجتماعي وسياسي يعزز شعوره الوطني، بعيداً عن الانقسامات السياسية، لأن هذا الإنسان اليوم بحاجة ماسة إلى الخدمات الأساسية والأمن والسلام والتسامح، كما أن الأمل معقود بالأجيال الجديدة لكي تأخذ زمام المبادرة، وتحقق القفزة النوعية لتنمية خلاقة تعيد للاقتصاد العراقي ثقته بنفسه ،وتجعل منه اقتصاداً منتجاً،يوجه على وفق فلسفة مجتمعيه نابعة من حضارته وثقافته.
اترك تعليقك