وسط عتمة الانسداد، ثمة من يجترح موقفا اكثر شجاعة للمواجهة، ولوضع المحنة العربية على طاولة التشريح، طاولة التعرية والكشف، اذ باتت الطروحات المعاصرة- وسط هذه العتمة- وكأنها تعيدنا الى قراءة مشكلات النهضة العربية، المشكلات الاولى التي ارهصت بمشروع التنوير والاصلاح، وربما طرح الاسئلة الحادة التي تتعاطى مع مرجعيات هذه النهضة، وبيان أدوارها ووظائفها وظروفها في انتاج مظاهر للعمران المديني والسياسي والفكري.. قد تحمل هذه الطرحات الكثير من ردود الفعل المعقدة، لكنها اضحت طريقا اضطراريا لمواجهة تفاقم رعب الانسداد، طريقا للتطهير، او لتلمّس بعض الضوء.
احسب ان مثل هذه الطروحات ستكون عشوائية، وتعويضية، ان لم تعمد الى الى صياغة برنامج بحثي وعلمي باتجاه مقاربة اشكاليات بعض مظاهر التنوير والجدل في تاريخ الدولة العربية الاسلامية، وفي مظاهر التاريخ المعاصر، من منطلق ان هذه النهضة بأسئلتها، واوهامها قد تملك بعضا من مفاتيح الاستعادة، او ربما امتلاك القدرة على التحول الى قضية يمكن ان تصطنع لها العديد من السرديات والمرجعيات والحركات، وصولا الى صنع شيء من الوضوح، الوضوح في رؤية الطرق التي ارتبطت بتاريخ تشكلات الجماعات القومية والوطنية، وحتى الجماعات التنويرية والاصلاحية التي كان هاجسها الاكبر هو السؤال النهضوي.. الباحث عبد الغفار نصر، في كتابه القيم "اشكاليات النهضة ومعوقاتها"، يسعى الى قراءة استثنائية لعديد محاور هذه الاشكاليات، والتعاطي مع اسئلتها، اذ عمد الى معاينة الاسباب التي ادت الى بروز عوامل تأخر المجتمعات العربية، والاخفاقات التي لازمتها منذ قرون، وهو اذ يشير الى بعض المحطات المضيئة في التاريخ، إلا انه يتوقف كثيراً امام الحلول التي يؤكد عليها، والتي تركز من خلال طرحه اسئلة عديدة امامنا بغية النهوض من العثرات التي تعترضنا، لينتهي في قراءته إلى أهمية ايجاد المسارات التي تضع النهضة كمفهوم واجراء ضمن سياق تاريخي فاعل.. يبدأ الباحث نصر قراءاته من خلال تحليل عصر محمد علي باشا في مصر وبلاد الشام بوصفه عصرا للدولة، وللطموح في انشاء دولة قوية في مصر، ورغم ان توجهه نحو بلاد الشام للحصول على وسائل الثروة والقوة، بدا وكانه كان يسعى الى تحقيق مآرب شخصية، وفي اقامة دولة مملوكية اداتها عناصر من غير العرب الذين كانوا يعيشون، الاّ انها الحلم يمكن ان يكون قرينا بوعي فكرة صناعة الدولة، الدولة التي تضخم ذاتها، باتجاه معاينة مراحل الانحطاط والانهيار بسبب عوامل داخلية تتعلق بطبيعة الانتماءات الاثنية والقبلية وقدرتها على الاندماج في بنية الدولة، اوبسبب عوامل خارجية تتعلق بالتحديات الخارجية بدءا من تاثير الانكليز الذين وجدوا خطورة في هذه الدولة، وانتهاء بتاثير الدولة العثمانية التي في محمد علي متمردا على سلطتها العلية، غير ان التحولات الحادثة في مراحل لاحقة انعكست على طبيعة هذه التوجهات ومسارها في التعاطي مع مفاهيم هذه الدولة، ومع الصراعات التي دخلتها المنطقة العربية، خاصة مع بدء مرحلة الاحتلالات الغربية للمنطقة العربية، والتي غاب فيها الحلم العربي القومي وتعثر المشروع النهضوي الذي برزت ملامحه في القرن التاسع عشر. صورة محمد على باشا تحولت الى شفرة مولدة للحس القومي، لكنها صورة نافرة عن سياق تحكمه عوامل فيها الكثير من الانحطاط والمركزية والقبلية والسحرية الدينية، مثلما فيها الكثير من الرعب التكفيري ازاء أي محاولة لتغريب فعل التغيير، لانه سيكون خاضعا لمزاج وحكم فقهي تحريمي للخروج عن الطاعة وتقليد الغرب بوصفه غربا كافرا.. الحركات النهضوية التي قامت في العالم العربي، انطلقت من اهمية التأكيد على أهمية التغيير الاجتماعي والحضاري والسياسي، فكانت نظراتهم متأثرة بشكل كبير بالأفكار الغربية، اذ تتلمس طروحاتها في النظر الى هذه المشكلة من خلال مرجعيات ومعالجات كرستها الاتجاهات الثقافية والسياسية التي بدأت تغزو المنطقة العربية منذ اواخر القرن التاسع عشر، والتي كان لها سلبياتها في تقسيم العرب إلى "عروبيين واسلاميين". وقد تعرضت معطيات هذه الاتجاهات الى الكثير من التعويم، خاصة في النظر الى طبيعة التعاطي مع مفاهيم ودروس واتجاهات النهضة الغربية، والكيفية التي استبطنت من خلالها الاحكام في النظر الى هذه النهضة ومواقفها ازاء التاريخ والاصلاح والحداثة، فعصر النهضة الأوروبي لم يكن فقط نتاج ظهور رواد الفلسفة كما يقول الباحث نصر، بل هو جاء نتاج تطور اجتماعي وثقافي واقتصادي وسياسي، وهذا الجانب هو الذي افتقرت اليه موجهات النهضة العربية، اذ افتقرت هذه النهضة الى عوامل النمو الداخلي والى وجود عوامل التطور الاجتماعي والثقافي والتعليمي والسياسي في تلك النهضة، بالرغم من أن رواد النهضة واليقظة العربية، حققوا تصورات ركزت في الأساس على قضايا الفكر! يثير الباحث رؤى عديدة تحتاج الى نقاش واسع لفهم عوامل تجديد الفكر العربي النهضوي، وليست الاشكالية فقط هي في أن الأنظمة الحاكمة رفضت مفهوم تحرير الحرية، بل هي رفضت تحرير عقل الانسان باعتباره الشرع الأعلى، والأنظمة الحاكمة اوجدت عوامل ابطلت من قدرة العقل على وضع قواعد تأسيس المشروع النهضوي. أهم ما ارتكز عليه الباحث في طروحاته وفي مشروعه البحثي، كان في قرائته لدروس النهضة واخفاقاتها، اذ عدّها المجال الأنجح لمواجهة مظاهر الاخفاقات التي تعرض لها العقل السياسي العربي ومظاهر ازمات المجتمعات التي ظلت تعاني من الانقسامات العمودية والأفقية. هذه القراءة وموجهاتها ظلت محصورة في اطار فهم معين للنهضة، اذ ان منطلق هذا الفهم اقترن بطبيعة السلطة والجماعات الحاكمة، بالمقارنة مع الحديث عنها من خلال تجارب المجتمعات الأوروبية التي لم تنهض الا بعد انتجت مفاهيم جديدة للدولة والمجتمع والديمقراطية والحقوق، ووضعها في اطر فاعلة من التشريعات القانونية العقلانية. حديث الباحث عن اشكالية المجتمعات العربية والاسلامية ارتبط بالحديث عن عقد بنيوية ارتبطت بمظاهر الدولة وانماط الصراع الذي عاشته مع تاريخ صراعي من الهيمنات الطويلة للاستعمارات الغربية والشرقية وجمود العقل السياسي الذي انتج فيما بعد انظمة استبدادية قمعية. فضلا عن طبيعة التشريعات والقوانين في اطار هذه الدولة، ارتبط هو الاخر بفهم محدد لهذه التشريعات بوصفها مورثات غير قابلة للتجديد. رغم ان اغلب علمائنا ومجتهدينا ومدارسنا العلمية والفقهية يرون في ان التشريع غير جامد، اي هو قابل للتطور، وهكذا هو الاسلام بوصفه ديناً مدنياً عميقا في معانيه وقيمه ورسالته، وانه معني بتقدم الانسان مثلما هو معني بتقدم المجتمعات وحاجاتها، لكن العديد من الوقائع ايضا تعطي صورة اكثر عتمة في التعاطي مع تداولية التشريع في مسائل خلافية في النظر الى الحريات المدنية والى قضية المرأة والحوق والدولة والهويات. ان تطوير المجتمعات وصناعة الدولة الحديثة والايمان بالتعدديات، يرتبط اساسا بالسعي الى اقامة النظام المدني للدولة، لانه هذه الدولة هي الاشكالية الكبرى، لاسيما مليتعلق بهوية هذه الدولة، ورغم ان فكرة تطوير المجتمعات ووضعها امام عالم تسوده العدالة وتحترم فيه الحقوق تظل حلما، وتظل مرهونة بنماذجها الغربية التنويرية بدءا من معطيات ما تحقق في القرن الثامن عشر الاوربي حينما بدات العقلانية الانسانية تهمين على مشروع الدولة والحقوق، الاّ ان غياب البيئة العلمية والتعليمية يعني غياب الاطر التي يمكن ان تشرعن فيها فكرة الدولة الحقوق، وهو ما يعني ان هناك رسوخا عميقا العديد من مظاهر الجهل والتخلف، ومظاهر الاستبداد.. ان قراءتنا لتاريخ الدولة الاوربية المعاصرة يؤكد لنا ان صنعة الدولة ليست اغترابا بالكامل، لانها مرت وارتقت بالتزامن مع الارتقاء بقيم التحولات الاجتماعية والثقافية والمدنية والتشريعية التي نهضت بها جماعات مدنية، كانت تعبّر عن نفسها من خلالها الى كتل اجتماعية وثقافية وسياسية ضاغطة.. لقد ركز البحث نصر في معرض قراءته الشمولية على مسألة ذات اهمية تتركز على مفهومنا للاستشراق، ودور الغرب (اوروبا سابقاً، وأميركا لاحقاً) من خلال تقييمه للشرق. اذ أعتمد مصطلح للاستشراق كأسلوب للتعاطي مع معالجته البحثية، والتأكيد على اهمية الابنية المعرفية في اثراء مفهوم الدولة، بالضد من المنظور الغربي الذي اراد من ظاهرة الاستشراق ان تكون ظاهرة سسيوتاريخية لتكريس الهيمنة، ولابقاء تداول المفاهيم والافكار في سياق خاضع الى رهاب ثنائية القوة والضعف.
اترك تعليقك