عالمياً، يعتبر الماء المصدر الأكثر وفرة على الأرض إذ يغطي ما نسبته 75٪ من سطحها، وبرغم هذا، يوجد حتى هذا اليوم أكثر من مليار شخص لا يستطيعون الحصول على المياه الصالحة للشرب بسبب التوزيع غير العادل للمياه وسوء الإدارة فضلاً عن التلوث البيئي.
ومن أهم الأسباب لهذه المشكلة ظاهرة الصراعات من أجل التحكم في مصادر المياه أو تقاسمها وحتى إدارتها، وهي ظاهرة جديدة نسبياً. وفي الواقع أنّ ما يقرب من ثلثي المياه العذبة لكافة الأنهار في العالم تتدفق عبر الحدود من أكثر من بلد واحد، وهذا الوضع يشكّل بيئةً خصبة لتفاقم الصراعات.
وكما تفيد تجربتنا في العراق، ينبغي أن تستند الحلول على عدّة ركائز منها المفاوضات الجدّية والنهج التقني والأخذ بنظر الإعتبار حاجة السكان الفعلية من المياه بدل الحديث عن التلويح باستخدام القوة العسكرية أو عن طريق إتخاذ القرارات الإرتجالية الغير مدروسة.
إنّ ارتفاع معدلات النمو السكاني، وبالتالي زيادة الطلب على المياه الصالحة للإستخدام البشري وعدم السيطرة على الموارد المائية من خلال إنشاء البنى التحتية الإستراتيجية والشواغل البيئية وازدياد التنافس على الطلب حسب القطاعات الاقتصادية المختلفة في الداخل وبين البلدان المتشاطئة، هي أسباب حقيقة لنشوب الصراعات. و في غياب آليات حل النزاعات المتفق عليها بصورة متبادلة، مثل اتفاق تقاسم المياه بين الدول، يبقى الصراع حول المياه يشكل تهديداً للسلام والإستقرار الدوليين.
الماء والأمن الغذائي
من البديهي القول بأنّ أهم المكونات الأساسية للحياة هي الماء والغذاء، فإذا ما وجد الماء، كان الناس أكثر إمكانية لإنتاج المزيد من الغذاء والحصول على حياة أفضل، وعلى العكس من ذلك، تكون ندرة المياه السبب الرئيس لشيوع الجوع والفقر.
لا يوجد تعريفٌ رسمي للأمن المائي، لكن ماجاء في الإعلان الوزاري للمنتدى العالمي للمياه الثاني في لاهاي عام 2000 هو تعريف مقبول على نطاق واسع، حيث جاء فيه أن الامن المائي يعني "... التأكد بانّ المياه العذبة والساحلية والنظم الإيكولوجية المرتبطة بها هي محمية ومحسّنة، وحيث تتحقق التنمية المستدامة والإستقرار السياسي، وأن يُضمن حق كل فرد في الحصول على مياه كافية صالحة للشرب والإستخدام البشري وبأسعار معقولة، من أجل يحيا حياةً صحية ومنتجة، وحيث يأمن الضعفاء من أية أخطار محتملة تتعلق بالمياه".
مع ذلك، فقد تم الاتفاق على تعريف للأمن الغذائي من قبل قادة العالم في مناسبات عديدة، لا سيما خلال القمم التي نظمتها منظمة الأغذية والزراعة الغذائية (فاو)، جاء فيه ان الأمن الغذائي يتحقق "عندما يتمتع البشر كافة في جميع الاوقات بالامكانيات المادية والاقتصادية للحصول على اغذية كافية ومأمونة ومغذية تلبي حاجاتهم التغذوية وتناسب اذواقهم الغذائية كي يعيشوا حياة موفورة النشاط والصحة".
الأمن الغذائي ليس مطلباً كمالياً، بل هو حاجة إنسانية أساسية، فلا شئ أكثر إيلاماً من معدة خاوية أو أطفال يعانون شدّة الجوع بسبب عدم إمتلاكهم الوسائل التي تكفل لهم حتى وجبة طعام واحدة في اليوم، نقص المياه يمكن أن يتسبّب في هذه المعاناة الإنسانية المأساوية.
كل إنسان له كامل الحق في تأمين وإنتاج غذاءه الخاص به والحصول على المياه هو المفتاح لضمان ذلك الحق. وعلى الرغم من أن تقنية الري قد تكون مضرة بالبيئة لبعض الوقت، إلا إنه الممارسة الإنسانية الأكثر عمقاً لضمان إنتاج الغذاء. يمكن للري أن يزيد إنتاجية التربة بنسبة 400%، ولهذا السبب، فإنّ ضمان الحصول على المياه هو أمرٌ حيوي جداً.
نظرة على العراق
العراق هو بلد ما بين النهرين العظيمين. تأريخياً، كانت كل العائدات المائية في حوضي دجلة والفرات تتدفق الى العراق، وفي استعراضٍ سريع نوجز بعض المنجزات التي أسهمت فيها حضارة الري القديمة لوادي الرافدين:
- أول دليل على وجود أنظمة للري وجد في حضارة أريدو (جنوب الناصرية) في الألف الخامس قبل الميلاد.
- قناة I-tu-rungal Canal (من بغداد الى الناصرية) في مملكتي سومر وأكد مابين 4000 الى 3000 قبل الميلاد.
- سد نمرود على نهر دجلة إضافة الى سدود أخرى في مملكة بابل أيام الملك حامورابي من 1900 الى 1600 قبل الميلاد.
- سدود وقنوات الملك سنحاريب في نينوى - العصر الآشوري من 1700 الى 1600 قبل الميلاد.
- سدود وخزانات الملك نبوخذ نصر - العصر الذهبي من 700 الى 600 قبل الميلاد.
- حضارتا فارس واليونان وحضارة الفرثيين من 600 قبل الميلاد الى 637 م.
- الطوفان العظيم الذي أنتج نظام الأهوار بين 627 و 628 م.
ومع شديد الأسف، فإنّ ما خلفته الحروب من دمار وتراجع كمية المياه المتدفقة إضافة الى مشاريع بناء السدود المكثفة في كلٍّ من سوريا وتركيا أدّى بالعراق الى أن ينتج ما يقرب من 30% فقط من الطاقة التصميمة للسدود والنواظم في السنوات العشر الماضية، والطاقة الكهرومائية لا تنال إلا مزيداً من الإهمال. وسيكون هذا النقص في إنتاج الطاقة ملموساً وبوضوح بعد الانتهاء من إنشاء سد اليسو التركي على نهر دجلة الذي سيقلل من المياه الداخلة إلى سد الموصل بما نسبته 50٪ من المعدّل السنوي على الأقل.
شرعت الدول المجاورة للعراق ابتداءً من أواخر سبعينات القرن الماضي في بناء السدود الكبرى والقيام بـ "ثورة" من أجل خلق ظروف هيدرولوجية لم تكن موجودة في الماضي، وقد بلغ إنخفاض معدلات المياه في نهر الفرات حدّاً مقلقاً بفعل الخزانات المشيدة على سدود كيبان، كريكايا، أتاتورك في تركيا، وسد طبقة في سوريا على حدٍّ سواء. كما أدّى بناء السدود والتحويلات المائية على نهري الكارون والكرخا في إيران الى تراجعٍ مأساوي في نوعية المياه، وبالتالي الخدمات البيئية والأراضي الرطبة في شط العرب وجنوب العراق.
يعتمد المزارعون في العراق على طريقة الري التقليدية في المقام الأول، وهي طريقة تسبب هدراً كبيراً في الواردات المائية، ومن الطبيعي أن يؤثر انخفاض الموارد المائية على الأمن الغذائي بصورة هائلة، وخاصة المواد الغذائية المنتجة محلياً. وفي نفس الوقت، وعلى الرغم من أنّ واقع إنتاج الغذاء في العراق متدهورٌ أساساً، فإنّ حدود العراق مفتوحةٌ على مصراعيها لاستيراد جميع أنواع المواد الغذائية من الدول المجاورة بصورة غير محدودة، متسببةً بحرمان عجلة الإنتاج الزراعة العراقية من المنافسة العادلة وضمان زيادة الأمن الغذائي في البلاد.
تشير تقديرات منظمة (فاو) إلى أن 20-30٪ من كلفة طعام العائلة اليومي مرتبط بالطاقة الكهربائية. وفي العراق ينبغي لنا مضاعفة هذا التقدير، إذ إنّ الطاقة مكلفةٌ للغاية وخاصة في مجال الإنتاج الزراعي، بسبب آثار الدمار الناتجة عن الحروب وعدم قدرة السلطات على حل أزمة الكهرباء في البلاد على الرغم من إنفاق ما يقرب من 30 مليار دولار منذ 2003.
يعتبر العراق خير مثال على ما يسمّى بترابط المياه والغذاء والطاقة. هذا الترابط موجود بشكل كبير جداً، وتاريخ العراق الحديث أنموذجٌ حيٌّ على هذا الترابط. وهذا الحال صحيح، ولا ينطبق فقط على الجانب الإنتاجي حيث الإنتاج الغذائي يعتمد كلياً على توافر المياه، وكلاهما (الإنتاج الغذائي وتوافر المياه) يتأثران بشكل مباشر بمدى توافر الطاقة الكهربائية أو عدمه، ولكنه يعتمد أيضاً على الجانب الاستهلاكي وما يمكن للسوق العراقية أن تستوعبه. ومن أجل دعم نظام التوزيع العام عالي الكلفة، أو ما نسميه بالبطاقة التموينية باستخدام المال المتحصّل من عائدات النفط، أحثّ شخصياً الحكومة العراقية على المراجعة الجذرية لهذا البرنامج المهم الذي أعتقد أنّ الملايين من الفقراء والجياع قد استفادوا من فقراته.
يعتمد الأمن المائي في العراق على عدد من القضايا تتصل بمحيطه الإقليمي. وفي عرضٍ سريع لبعض الأرقام الخاصة بكمية المياه والأراضي الصالحة للزراعة، نعرف أهمية الوصول إلى شراكة عادلة وحقيقة للمياه بين دول المنبع ودول المصب وأيضاً المتشاطئة منها، فسكان المنطقة العربية يشكلون حوالي 15٪ من سكان العالم، وكمية المياه العذبة فيها تشكل حوالي 1٪ من مجموع المياه في العالم.
إنّ اتفاقات تقاسم المياه مع دول الجوار ، وخاصةً تركيا وإيران، ضرورية جداً لضمان وصول المياه في الزمان والمكان المناسبين، خصوصاً وأنّ الزراعة بطرق الري التقليدية هي المصدر الرئيس للغذاء في العراق. وإذا ما كانت الدول المعنية غير قادرة على حل هذه المسألة، فإنّ العراق مستعد لقبول وساطة دولية يمكن من خلالها الاستعانة بتحكيم طرف ثالث محايد، لبلورة خارطة طريق تحقق الاتفاقات المناسبة لتقاسم المياه.
ومن الأهمية القصوى العمل على تأسيس إدارة مستدامة للموارد المائية المتاحة، من خلال تطبيق إدارة الموارد المائية (Water Resources Management)، تنفذ مع بنود سياسات حماية البيئة والنظم الإيكولوجية، مع الأخذ بنظر الاعتبار أنّ للمناخ وهطول الأمطار وتساقط الثلوج والجفاف آثارا خطيرة. وفي هذا الصدد ينبغي تطوير إستراتيجية طويلة المدى لإصلاح قطاع المياه وإدارتها، في ظل ظروفٍ تشكو أساساً من ندرة المياه الدائمة، سواء كان ذلك بسبب تأثيرات تغير المناخ أو إدارة المياه والخطط التنفيذية للبلدان المتشاطئة.
رسوم وأجور استخدام المياه
بدأت عملية فرض الرسوم على استخدام المياه في العراق قبل عام 2003، فالسعر المفروض على الدونم الواحد (2500 متر مربع) يتراوح بين 500 و 2500 دينار عراقي حسب طريقة الري. وقد بذل جهد كبير لتحصيل تلك المبالغ خلال عامي 2004 و 2005. علماً أنّ كلفتها أقل بنسبة 50٪ من التكلفة الحقيقية التي تتحملها الدولة. وخلال عام 2006 أرسل طلب إلى مجلس الوزراء لتأجيل تحصيل تلك الأموال حتى إشعار آخر، ولا يزال هذا التأجيل ساري المفعول.
وقد اتخذ العراق خطواتٍ جادة من أجل إنشاء المجلس الوطني للمياه بغية تعزيز قطاع المياه، وإدخال وتنفيذ إصلاحات جذرية على هذا القطاع في أنحاء البلاد كافة.
ختاماً، العراق بلد متطلع إلى المستقبل، وهو يفضل الحوار وتقاسم المنافع المتبادلة بين الأطراف المعنية بالأمر، وتحقيق تسوية في قضايا المياه، لتحقيق حصّة عادلة منها وضمان أمنه الغذائي.
* ترجمة لمحاضرة ألقاها د. رشيد المستشار الأقدم لرئيس الجمهورية ووزير المــوارد المائية السابق في المعهد الملكي للشؤون الدولية في لندن (Chatham House) في ورشة عملٍ لمجموعة من الخبراء.
اترك تعليقك