تاريخ بطاقة بريدية

نجم والي 2014/01/07 09:01:00 م

تاريخ بطاقة بريدية

3-7
أمر غريب، تبدو القرارات التي نتخذها ونحن أطفال أقرب للتخيل، لا منطق يربطها، لكن بعد سنين عندما نكبر ونتأملها، نعرف أية حكمة اختفت وراءها، وأنها قريبة من التخيل أحياناً، ففي النهاية، سارت حياة الطفل الذي كنته بالفعل في هذا الاتجاه، سواء في علاقته بألمانيا أم بعلاقته بالمنارة هذه بعد سنوات، علاقتي بألمانيا التي بدأت ولي من العمر ستة عشر عاماً، بلقاء بالصدفة مع كتاب مترجم "مراثي دوينيس" لريلكة بترجمة فؤاد رفقة، الشاعر السوري اللبناني الجنسية الذي سألتقيه بعد قرابة أربعة عقود وأتعرف عليه صدفة في محاضرة له في مبنى مكتب الخارجية الألمانية في برلين.
علاقتي بألمانيا التي تطورت أكثر مع دراستي الأدب الألماني – قسم اللغات الأوروبية – كلية الآداب في جامعة بغداد، وانتهت بعد الدراسة تلك بست سنوات إلى ألمانيا الاتحادية، إلى مدينة هامبورغ في الأول، (لكن عن طريق برلين)، قبل استقراري اللاحق في برلين. أو قبل قراري اللاحق بالعيش بين بغداد وبرلين. إي دورة حياة هذه، ليس بما خص ألمانيا وبرلين وحسب، بل بما خص المنارة التي رأيتها بعين المصور الألماني على البطاقة البريدية تلك، ففي العام الثاني من دراستي الأدب الألماني في جامعة بغداد، وبعد طردي من العمل أولاً في القسم الثقافي في إذاعة بغداد وثانياً من العمل في مجلة الإذاعة والتلفزيون، عرفت أنني لكي أصبح كاتباً حراً، لابد لي من الاعتماد على نفسي، العمل بحرية، أي عمل، باستثناء العمل في مؤسسة ثقافية رسمية تابعة للنظام الحاكم في العراق، وهي الصدفة التي حملت زميلا لي كان يدرس الأدب الفرنسي في كلية الآداب، عطا عيسى، الذي ذهب إلى المنفى قبلي بثلاث سنوات، والذي كان مفلساً مثلي، بحاجة إلى بعض المال، لأن عائلاتنا كانت لا تستطيع دفع مصاريف دراستنا الجامعية، خاصة أنا، لأن عطا عاش مع أهله في مدينة الثورة في بغداد، لكن كان عليّ تكفل حياتي في بغداد، وهو عطا الذي اقترح عليّ وعلى زميلين آخرين (أحدهما صديقي طالب حسن، درس الأدب العربي في كلية الآداب، قادته دروب الحياة قبلي إلى برلين)، أن نعمل حراساً ليليين، وأن قريباً له يعمل في مكتب العمل هو الذي أخبره عن حاجة بعض الوزارات لحراس ليليين، علينا ألا نفوّت الفرصة أبداً، هكذا ذهبنا في يوم مشمس إلى مكتب العمل القريب من باب المعظم، لكن أية صدفة؟ قرار عبثي لطلبة جامعيين بوهيميين أو وجوديين كما كنا في عرف الطلاب البعثيين والشيوعيين، سيجعل حصتي مدرسة مختلطة للبنات والبنين في محلة القشلة في سوق الشورجة، ولكي أصل إليها قادماً من غرفتي في الحيدرخانة كان لابد لي من المرور ليس بغير منارة سوق الغزل، منارة جامع الخلفاء، لو كنت أؤمن بالغيب أو بالقدر لقلت أن اختياري لتلك الصورة كان مكتوباً عليّ، كان مكتوباً عليّ من قوى خفية، أن أكبر وأعمل في مكان قريب من المنارة هذه، ثم أذهب بعدها إلى ألمانيا، إلى بلاد المصور الذي أخذ الصورة تلك. لكنني لا أؤمن لا بقدر ولا بغيب. أعرف أن حياتي هي مجموعة من المصادفات، وأن لا شيء حقيقي فيها أكثر من الصدفة، لكنني أعرف أيضاً، أن حياتنا تقترب من الأدب، من الخيال، صحيح أنني لم أعرف ذلك في حينه، أو أكون قد فكرت به كما أفعل الآن، لكن بالتأكيد هو أن الغموض الذي ارتسم أمامي وأنا أتطلع في الصورة، لأنني لم أعرف علاقة بين المنارة ومصورها، بين بغداد وبرلين، أن الغموض هذا أثار الفضول عندي، وجعل خيالي ينشط بالبحث عن قصة المنارة، بالتأكيد لها قصتها الخاصة، وأية قصة؟ ربما ذلك ما قالته لي الصورة، دون أن أدري في حينه أن لا حاجة لتخيل قصتها، لأنني بعد سنوات وسنوات، سأعرف أن القصة التي جرت عليها منذ نشأتها تفوق كل خيال، ربما ذلك ما أوحته لي الصورة، وهذا ما جعلني أحتفظ بها كأنني أعرف أنني لابد وأن أعود لها ذات يوم، وإن لم تكن ليست هي وحدها التي تقترب قصتها من الخيال، فقد شاركتها الصور الأخرى أيضاً ذات المصير، لكنها على الأقل كانت الأولى في الترتيب !
 يتبع

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top