الكاميرا توثق ثمانين عاماً من حياة مارغريت دورا

الكاميرا توثق ثمانين عاماً من حياة مارغريت دورا






سعد ناجي علوان

ليس هناك عمر للحب، الحب الذي يأتي بكل معانيه الجليلة، بسطوع الحس وإدمان رائحة الحبيب، بتذوق ملح أيامه، الحب حين يكون أخطر الأشياء التي يمارسها الإنسان، واضعاً حيواته كلها بين يديه كقربان أولي من دون أن يلتفت إلى الوراء ولو للحظة واحدة.
يحرق (يان أندريا) (إيمبريك ديمارغي) كل سفن أيامه الماضية ويكف عن الكتابة إلى حبيبته ليسحره الوجل عند بابها، وهي التي فضلت بفرديتها العالية وحسها المفرط، البعد عن الحياة العامة مكتفية بغرفة أبعدت حتى تطفل الشمس عنها في شقة منزوية لتتفرغ للكتابة، الكتابة التي أصبحت بفضل مثابرتها المعهودة وحيويتها فعل حياتها، فتعترف بأنها تكتب حتى في النوم (ستون عاماً من الكتابة في ثمانين عاماً عاشتها مارغريت دورا). وهكذا تحولت الكتابة لديها إلى شكل من أشكال الرقص للحصول على مساحة ما كافية للروح والجسد. تدخله الشقة بعد تردد، تحيطه بنظرات فضولية فاحصة مقتربة منه وكأنها تتلمس لعبة غريبة لا تدرك كنهها (أنت جئت من العالم الخارجي، يرعبني أن أراك فأنا لا أعرف سواي) وسواي هنا لا تعني الفردية البحتة، فـ(مارغريت دورا) كاتبة مبدعة لطالما جسدت آلام الآخرين بشتى الوسائل والصور الإبداعية، وشاركت في أغلب الحركات الثورية والاجتماعية. أخرجت عشرين فيلماً سينمائياً وحازت جائزة غوتكور (1984) عن روايتها (العاشق).
لكنها الاحتفاء الدائم بالذات وعشقها لدرجة الخوف عليها من التحطم بين يدي الآخرين.
أما (يان أندريا) فلا يصدق ما هو عليه وأنه وصل إلى هذا الحد من الجرأة ليقف مبهوراً أمام الأزلية، غارقاً في شموخها الذي يشبه كثيراً شجر الحور. فلا يصدق أنه مع كل المعاني التي جسدت وستجسد حياته، فكيف يخرج من هذا الذهول سوى أن يسرد لها وبسذاجة سطوراً من أعمالها.
علّه يتجاوز محنته بعض الشيء، لكنه يصطدم بفظاظة مفاجئة (عرفت رجالاً رددوا أما في أعمالي كلها فلا تكن غبياً أيها الفاشل) ليسقط الأمر بين يديه، ولا يعد (يان) يملك إلا الإذعان المستديم لعلاقة مجنونة تتدثر برتم فوقي وافتراس، علاقة تتشابك فيها مختلف العواطف الإنسانية (العاشق – الحبيبة – الإبن – الأم – العبد – الفاشل – الحنو – التجبر – الإبداع – الإخلاص) وليذهب كل واحد منهما أسرع من الآخر لعدّ حبيبه والقضاء عليه.
فبعد أن طلبت (دورا) من (يان) (كل ما عليك فعله أن تحبني) سرعان ما يجد ذلك الحب عبئاً وعبثاً لاسيما حين أعاد إليها ما نسيته من أسئلة حول الجسد والروح، مفضلة ارتياد الظلام الرطب ونسيان الآخرين إلا  كعوالم أدبيته، كما أن (أندريا) فشل رغم ولهه الكبير احتمال ذلك الجبروت، ليغادر باحثاً عن نفسه في مكان آخر، لكن أنى له ذلك وهو الذي لم يعرف نفسه إلا بـ(دورا)، يفشل ثانية ويعود ليكتب صفحات ذلك الحب وتلك الحياة التي تدعى حكاية (مارغريت دورا).
تلك الحكاية التي أعاد بها المخرج (جوسيه ديان) السينما الفرنسية بعوالمها الرقيقة الحالمة، وكنا قد نسيناها أحياناً بفيلم شفاف رغم محدودية المكان (أغلب مشاهد الفيلم تدور في الشقة) وطغيان الحوار وباثنين من الممثلين فقط: (إيمبرك ديمارغي) (يان أندريا) والرائعة (جان مورو) في دور (مارغريت دورا) والتي استطاعت بتألقها الدائم أن تمسك بتلابيب الدور، وتعيد لنا عوالم (دورا) لنعي أولاً ماذا تعني السينما، وما هو الحب وما هي الحياة.

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top