عين على المكان .. قراءة في كتاب   ضباب الأمكنة  لـ زهير الجزائري

عين على المكان .. قراءة في كتاب ضباب الأمكنة لـ زهير الجزائري

شجاع العاني

وأنا اقرأ كتاب ضباب الأمكنة للروائي زهير الجزائري توصلت الى قناعة مفادها أن الروائيين صنفان، صنف يرى الناس والأشياء في المكان،

وصنف ثان يراهما في حركتهما في الزمان، ولعل دستويفسكي هو من يقف على رأس الصنف الأول، فقد رأى متناقضات عصره في المكان كما يرى باختين، أما الصنف الثاني فيمثله تولستوي في رائعة الحرب والسلام، إذ نرى الناس والأشياء في حركتها خلال قرن من الزمن، بالرغم من أن بعض النقاد – مثل فورستر – يرون أن عظمة الحرب والسلام تنبع من المكان لا الزمان.

والروائي زهير الجزائري ينتمي الى الصنف الأول، فمعظم رواياته تستمد عنواناتها من المكان، كما أن المكان يشكل مركز هذه الروايات وأحداثها، وقد بدا هذا الأمر واضحاً منذ رواياته الاولى "المغارة والسهل 1976، التي تروي أحداث أيلول الأسود في الأردن وتشكل المغارة في الرواية مكان الالفة والامن بالنسبة لبطلها (وليد) بينما يشكل السهل مصدر رعب وخوف للبطل وفي مكان من الرواية نجد تأملات البطل للمكان ومحاولته أن يتمد شيئاً من البطولة من الشعب البركانية حيث "اعتصم الدروز أشهراً طويلة... مع بنادقهم العتيقة يأكلون لحم الأفاعي والنسور، لقد أبادوا فرقا كاملة من الاتراك قبل أن يعزلهم الاتراك عن القرى ويسمموا عيون الماء، لقد تساقطوا هنا واحداً واحداً على أذرع بعضهم، وهكذا يستمد البطل من هذا اليأس البطولي عزيمته على مواجهة الحاضر المرعب.

إن الحد التاريخي بكل جلاله يتجلى من خلال المكان، وهو نهج سار عليه الروائي في كتابه (ضباب الأمكنة) فالكتاب لا يعرض الأشياء ويصفها في سكونها بل يعرفها وهي حالة حركة دائبة، ولعل هذا ما يميز كتاب الجزائري عن غير من الكتب الشبيهة، مثل كتاب بغداد في العشرينيات، لعباس بغدادي الذي يرينا صورة لبغداد في العشرينيات، ولكنها صورة جامدة، بينما الجزائري يُرنا بغداد في الستينيات ويمتد عمقاً حتى العصر العثماني، بل العصر العباسي من خلال شارع المتنبي (درب – زاخا) ويمتد صعودا حتى يومنا هذا.

وهكذا فنحن لا نرى الاشياء جامدة باردة بل نلمس مشاعر الكاتب ورعشات قبلة وتأملات في المكان وهو يتشكل ويتغير تبعا لحكة الزمان، وهكذا نحن نرى القشلة وشارع المتنبي في العصر العباسي والعثماني وفي عهد الملك فيصل الأول الذي اطلق عليه اسم الشاعر العربي الكبير ومن قبل ذلك عن شارع الرشيد والأحياء الأخرى التي تناولها الكتاب.

ولعل الطريف في الكتاب أن لا يقتصر على الموضوع الواقعي بل يدعمه ويرفده بمعادلة الخيالي في الفن فرثاء الروائي لحي البتاوين يجعله يسير في شوارعه متبعاً خطوات العجوز المجنونة (ايليسو) في رواية أحمد السعداوي (فرانكشتاين في بغداد) تلاحقه رائحة الجثة المقطعة التي يحاول (العتالك) خياطتها (ص22) كما إنه يتذكر لوحات (لورنا سليم) حين يتذكر شارع أبي نؤاس ومعالمه، التي استوحتها الفنانة في لوحاتها!.

وقد يصل الأمر بالكاتب الى استقطاع نصوص من المعادلات الخيالية الفنية لهذه الاماكن.

فهو حيث يتذكر شارع الرشيد، يتذكر معه رواية (خمسة أصوات) لغائب طعمة فرمان بل يقوم مع الروائي العربي غالب هلسا بسياحة من البرلمان حتى رأس القرية ليفحص الأماكن التي وصفها غائب في روايته بل هو حين يذكر منطقة (المربعة) يتذكر رواية (ثلاثة وجوه من بغداد) لغالب هلسا التي كتبها وهو يعيش في المربعة، ويقطع نصاً منها يدل على أن الكاتب ظل يعتقد إنه يعيش في القاهرة حتى وهو يعيش في قلب بغداد "كان يحتاج الى قدر من الإرادة واليقظة ليتذكر إنه في بغداد ولم يكن ذلك سهلاً، القاهرة تحتويه تماماً فتظل بغداد عابرة".

هذا علما بأن غالب هلسا عاش في الخمسينيات في بغداد، وكان يعتقد انها الجنة!

إن بين الروائي زهير الجزائري والروائي غائب طعمة فرمان مشتركاً يخص المكان، فلاهما عاشا حياتهما أو معظمها في المنفى، ومن هنا نشأ لديهما موقف من المكان، يقوم على بكاء الماضي وهجاء الحاضر لدى فرمان خاصته، وقد كاد ينزلق الى معاداة العمران، في روايته (المخاض) "ظلال النافذة" فهو يعادي بشكل خاص الأحياء السكنية، الجديدة ويحن الى الأماكن الضيقة القديمة لأنها تذكره ببغداد القديمة.

على أن الجزائري وهو يرثى هذه الأماكن القديمة التي أتى عليها التجديد والتطور لا يقف ضد هذا الجديد وإن أشعرنا بنبرة الحنين الى هذا الماضي.

والكاتب وهو يرثى هذه الاماكن، يذكر ظاهرة سياسية ساندة في بلدنا، وهي أن السلطات تهدم دائما ما بناه سابقوها لكي يتحول التأريخ الى "خربة" بعبارة الكاتب فحين "تتهاوى العلامات الصلة مثل الأبنية والتماثيل يصبح التاريخ سائلاً متاحاً للقوميين والطائفيين والأصوليين" ص66.

حين يذكر الكاتب معلماً من معالم بغداد، يذكر أهم ما مر عليه من أحداث فهو حين يذكر ساحة التحرير، يذكر واحد من أهم الأحداث التي مرّت على الساحة وهو إعدام مجموعة من اليهود اتهمهم النظام بأنهم يتجسسون لصالح اسرائيل، وعلقوا في ساحة التحرير وهو لا يقدم المشهد مجرداً بل يقدمه مع التحليل السياسي والسيكولوجي لمعناه ودلالته، فهو يضع عنواناً هو ساحة التحرير والنصب والكابوس: 

من يعرف صحة الجرم؟ بالنسبة للحشد في الساحة لا ضرورة للتحقق كونهم يهوداً و(عملاء لإسرائيل) يجعل الأمر مؤكداً ومقبولاً ص74 و"المكان يذكرني بالغائب" وهو الجثث المعلقة ولازمتها وهي الحشد كيف حولوا الخائفين الى مخيفين؟! هذا ما أرادوه من مهرجان الرعب؟ لقد نجحوا إذن!

وهكذا لا يدين الكاتب السلطة في ارتكابها أفعالاً شنيعة بل والجمهور وكذلك وأظنه على حق فكم عدد الناس الذين استنكروا المذبحة؟!

والى جانب التأملات والتحليل السياسي يقدم الكاتب تحليلاته الجمالية والانثروبولوجية أيضاً، فهو في حديثه عن ظاهرة (المول) فالمدينة تغيرت ديمغرافياً نحو الطبقة الوسطى التي جمعت أكبر عدد ممكن من الناس في رقعة صغيرة هي (المول) الذي هو "مزيج من الخوف" والجمال المصنوع يسرقنا من جمال الطبيعة، جمال البناء، جمال الديكورات، جمال البضائع في الواجهة... سحر المول لا يمكن في جماله فقط مع أن الجمال كاف لوحده" ص128.

استطاع المؤلف أن يوقف الزمن ويصور بكامرته او قلمه الكثير من معالم بغداد الشهيرة، القشلة، شارع المتنبي، شارع الرشيد، المنطقة الخضراء، زيونة، شارع أبي نؤاس، ولم يترك شيئاً من بغداد أو معلماً معروفاً إلا وذكره، مع ثراء وغنى معلوماته من هذه الأماكن (ضباب الأمكنة) ممتع جداً وجدير بالقراءة وإني لأ شد على يد كاتبنا الكبير.

 

اترك تعليقك

تغيير رمز التحقق

Top