روائيون وشعراء لم يغادروا الوطن لكن شعورهم بالغربة أثقل
اجرى الحوار: عامر القيسي
غادر العراق ١٩٧٩ بجواز سفر أردني مزور، كانت لبنان أول محطات منفاه ومنها تشعبت الطرق وكثرت المدن وخلال المنفى ، يقول الروائي زهير الجزائري الذي ولد في مدينة النجف عام 1943، بدلت الكثير من المنافذ والبلدان قبل الاستقرار في لندن.. حيث سكنت خمسين بيتاً تقريباً. فحياتي في المنفى هي سلسلة انتقالات. لم استقر في مكان واحد.. وبقيت أحاول الاستقرار مما ولد لدي نوستالجيا للمكان وهاجساً وحنيناً إلى الأماكن السابقة التي تركتها...و في كل منفى، ومنفى داخل المنفى، أكوّن بيتاً ومكتبة وأعلق صوراً وأقيم علاقات مع جيران وأصدقاء وأقول : هذا وطن بديل. ثم أغادره الى مكان آخر. رحلة منفى انتجت لزهير نحو 26 كتاباً بين الرواية والبحث والسيرة.
عن نتاجه الروائي يقول الجزائري "داخل الوطن كتبت أول رواياتي ( المغارة والسهل ) عام ١٩٧٤، موضوع الرواية أحداث عشتها هناك في المكان الآخر..عن عمان ومعارك المقاومة الفلسطينية مع الجيش الأردني . عداها كتبت معظم رواياتي وأنا خارج المكان( نفق الى الشمس) أعدت كتابتها في لبنان، مجموعة قصص الأطفال (قطرة الماء) كتبتها في لبنان ، كتابي عن الفاشية كتبته في لبنان. في منفاي الجبلي بكردستان كتبت رواية (مدن فاضلة) و أوراق جبلية. في منفاي بلندن كتبت (المستبد) وروايتين (حافة القيامة)و( الخائف والمخيف).
ريادة " باب الفرج"
آخر نتاجك الروائي في المنفى " باب الفرج " وصفها أحد النقاد بان لها قصب السبق والريادة في تقديم تجربة تعتمد على السرد اللساني والتصويري في آن معاً، ريادة تطوع الخبر الصحفي والقصة الصحفية وحتى التقرير أو التحقيق الميدانيين، بل تحاول مزجها لصالح السرد القصصي الوصفي..الى أي حد تتفق أو تختلف مع هذا التوصيف ؟
- الرواية الوحيدة التي كتبتها داخل الوطن( المغارة والسهل) ، وللمفارقة، كانت هذه الرواية عن مكان آخر هو عمان أيام حرب أيلول ١٩٧١. أن تكتب عن مكان فارقته هو حفر في ذاكرة. رواية (باب الفرج) هي المفارقة مضاعفة. فقد كتبتها بافتراق مكاني وزماني. فقد افترقت عن مدينتي النجف وأنا داخل الوطن بعد انتقالي وعائلتي الى بغداد ثم افترقت عن الوطن وصار بيني وبين المدينة سلسلة من المنافي. لكي استعيد المدينة علي أن أعود اليها وأسترجعها. وهنا دخلت في مأزق التعارض بين المدينة التي أراها الآن والمدينة التي أتذكرها. المدينة التي أراها الآن افترقت عن ذاتها. هذه مدينة أخرى. لكي أستعيدها وضعت مرتكزاً مكانياً، هو الصحن العلوي المركز المقدس للمدينة ورحت أنقب بين محلات المدينة عن الأمكنة الأخرى وأرمم الأنقاض والإنثلامات في ذاكرتي. وفي الرواية افتراق زماني. زمن لم أعشه، هو الفترة بين احتلالين.
يدخل المؤرخ هنا ليستعيد ذاك الزمان وأحداثه، المؤرخ كما تعرف بخيل، يختصر كثيراً من الأحداث بجمل قليلة ولذلك لجأت للمذكرات وهذا هو الجانب الصحفي الذي تتحدث عنه. أن تستنطق الموتى عن تجربتهم وعن الأحداث التي عاشوها وشاهدوها. وهنا أتفق معك في أن السرد عندي، وربما عند غيري أيضاً، يتداخل فيه المرئي والمحكي، لكن السؤال، أيهما قبل الآخر؟ تأتيني الصور أولاً. وفي داخلي دائما سينمائي يرى الأحداث بشكل لقطات. . الكلمات هي كاميرتي ووسيلتي لجذب قارئ مشاهد. يقرأ فيرى صوراً.
تأريخ بلا شهود
في "باب الفرج" التي خصصت بها مدينة النجف توغلت في زمن بين احتلالين ( العثماني والبريطاني ) وتحديداً المدة من 1906 حتى عام دخول القوات البريطانية الى البصرة عام 1916 ، هل كنت تقدم قراءة مغايرة لهذه الفترة أم استخدمت التأريخ للغور في البنية الاجتماعية والسياسية لمدينة النجف ؟
- في هذه الرواية ( باب الفرج) كتبت عن تاريخ لم أعشه ولم يرويه لي شهود عاشوا الأحداث، التاريخ كان مادتي لكني لم أكتب رواية تاريخية ولم أكن أكاديمياً مخلصاً للتاريخ. غزوة الوهابيين للمدينة والطاعون حدثا في زمان آخر. كنت أمسك بلحظات من هذا التاريخ وأحدّد عناصر هذه اللحظة المعاشة وأشحن الآنية الحسية في مواجهة الواقع الموضوعي، الى جانب التاريخ الموضوعي الذي كتبه المؤرخون صنعت في الرواية تاريخي المتخيل. راوية الرواية يطير فوق الأحداث ويرويها لنا ، وهو لا يطير فوق الأمكنة وحسب ، إنما فوق الأزمنة أيضاً، فيرى أحداثاً عاشها أجداده الموتى ويرى أيضا أحداثاً لم تحدث بعد، أنا صنعت تاريخي الخاص وحاولت أن أكسو الأحداث التاريخية بلحم ودم من عندي، من شخصيات أعرفها في زمان آخر.
التناقض خلال الكتابة
قلت في مكان ما ،أجرد نفسي من زمني الحالي خلال الكتابة وأدفع ثمناً باهظاً لماض غير نافع ، هذه الذاكرة التراجعية تعاكسها ذاكرة أخرى أكثر تلقائية، تجبرني على أن أدبر حياتي الراهنة بدلاً من نبش قبور الماضي.. هل طلّقت الماضي بعد " باب الفرج " ؟
- يحدث دائماً هذا التناقض خلال الكتابة بين واقع اللحظة التي أنا فيها حين أهم بالكتابة وبين اللحظة الروائية التي سأكتب عنها ، أنا جالس في مقهى في لندن. الجلاس حولي كل منشغل بعمل ما، واحد منهم يغازل فتاة الى جانبه وآخر يرتب حسابات زبون وثالث شبه نائم يسمع موسيقى لوحده ... خلف الزجاج في الشارع تنث السماء مطراً لم ينقطع منذ البارحة ، وأنا هنا أحاول استحضار ما هو مناقض تماماً للحظة الراهنة .. مكان صحراوي ومناخ قاري ساخن مشحون بعواصف رملية وسرب من جمال تحمل محاربين بدو... هذا التناقض بين فضاءين متعارضين تماماً هو الكتابة في المنفى، أن تقسّم نفسك الى نصفين، أنت هنا وهناك في نفس الوقت، هنا في المكان الحاضر وهناك في الماضي الذي لا يمضي، حين تكتب عن المكان الأول عليك أن تنفي منفاك وتمسك المكان الأول بذاكرتك، المكان مهم للمنفى، فهو الإطار الذي يحفظ الصور الحقيقي منها والمتخيل. لا تأتيني الذكريات تلقائياً وعلى غفلة ، أنا أذهب إليها بقصدية، فتهرب مني،ولذلك استعين بذاكرة عاشوا الحدث معي أو عرفوا عنه علي أن أعيش الزمن بالمقلوب لكي اكتب عن زمان ومكان غادرته .
بين فرمان وهلسا
قلت في مقال لك " خلال تنقلي كنت أتردد بين مثالين ، بين العراقي غائب طعمه فرمان و الأردني غالب هلسا، ينفي الأول منفاه بأن يمسك بذاكرته المكان الأول ، بينما يعالج الثاني النسيان بالفعالية الإيجابية وبالدراسة الإرادية لمنفاه يبدو من نتاجاتك إنك اخترت الإمساك بالمكان بالضد من فعالية النسيان ..هل هذا صحيح ؟
- فعلت مثل ما فعله غالب هلسا خلال فترة وجودي في بيروت، وهي منفاي الأول، عشت أحداث الحرب الأهلية شاهداً منفعلاً بها وفاعلاً في حدود مهمة الكاتب، حين وصلت لندن في بداية التسعينيات وجدت مدينة منجزة في غيابي لم أستطع أن أضيف لها حجراً، وصلتها حين بدأت الحرب على العراق، وكان سكان المدينة مشغولين بهذه الحرب، مظاهرات يومية ضد الحرب التي شغلت كل نشرات الأخبار، ولذلك عشت الحرب بأعصابي. وعشتها جدلاً مع أقرب الناس إلي.
الدكتاتور نفسه
في روايتيك (حافة القيامة) و( الخائف والمخيف) عوّمت المكان ، فبدا كأي رقعة والدكتاتور كأي دكتاتور. وعنهما قلت "توزعت الأمكنة والأحداث في الرواية الواحدة حتى أني نفسي أجد صعوبة في تحديد المكان" هل غادرت فيهما منهجية الإمساك بذاكرة المكان ؟
- خلال عملي كصحفي غطيت أحداثاً كثيرة ورأيت عدداً من الطغاة امتلأت بهم مخيلتي، كنت في السودان حين سقط النميري وسمعت ضحاياه يتحدثون عنه، وفي ليبيا شهدت القذافي يتمخطر كالطاووس وهو يستعرض الجماهير التي تمر أمام منصة التحية ، عشت أشهراً في مصر وأنا أرى صور مبارك في كل مكان ورأيت تملق المتملقين... كل هذا إضافة لدكتاتورنا المميز بين الكل. عرفت المشترك بين كل هؤلاء الديكتاتورين والمفترق فيهم. . القمع وأشكاله، تصفية الرفاق، النزعة الاستعراضية، الخوف من غدر الأقربين، وكل واحد هو ابن بيئته. كانت مخيلتي تطوف بينهم، هو واحد بينهم وهو كلهم في نفس الوقت.
اختلافات أدب المنفى
زهير ، هل هنالك عناصر عمل روائي تشترك فيها روايات المنفى ،هل لها هوية خاصة ؟ هل تشعر أن ماكتبته في المنفى مختلف عمّا كتبته في الداخل ؟
- هناك اختلافات في أدب المنفى تفوق الاختلافات في أدب الداخل. رواية غائب طعمه فرمان كتبت في المنفى، لكنها أقرب الروايات الى الداخل في حواراتها وبيئتها المحلية. غائب هو عميد المنفيين وأطولهم مكوثاً في المنفى ، لكنه الأكثر محلية بين الروائيين العراقيين. وقد قرأت لروائيين وشعراء لم يغادروا الوطن، لكن الشعور بالغربة عندهم أكثف وأثقل من كتابات لمنفيين..
في المنفى، خاصة حين يطول النفي ويتعذر الاندماج يصبح التذكر غاية وليس وسيلة للمعرفة. تذكر المكان الساكن وتصبح النوستالجيا وسيلة للتواصل مع ما فقدناه، هذا الحنين المنكسر موجود في أدب المنفى وفنه، لكن المنفى أعطانا حرية في التعبير افتقدها الكتاب الذين بقوا تحت وطأة الخوف في الداخل.
الانتفاضة في مواجهة سلطة الفساد
أتيت آخر مرّة الى بغداد وساهمت في انتفاضة تشرين ، أو الحراك الشعبي في مواجهة سلطة الفساد والفشل كما رآها المنتفضون ، وكتبت عنه أيضاً ، ماهو تقييمك لدور المثقف العراقي في هذه القضية ؟ هل تعامل معها كنشاط سياحي إعلامي أم كان في عمق الحراك كدور فاعل أو محرض من أجل عراق مختلف ؟
- أتحدث أولاً عن نفسي، لقد كان الحدث بالنسبة لي مفاجئاً بكل المقاييس. . مفاجئاً بجمهوره وتوقيته واستمراره. . ومفاجئاً في العنف الذي وجه إليه. قبله شاركت في مظاهرات عديدة بعد ٢٠٠٣. ولكني كنت دائماً مع مجموعة مدنيين ويساريين أعرفهم. . هذه المرّة كنت وسط جمهور آخر تماماً، جيل عجيب لديه إصرار ، لا يعرف الخوف الذي عشناه تحت سلطة دكتاتورية، جيل يتواصل أفقياً خارج الأحزاب، لم أكن قائداً ولا موجهاً، ولا حتى ناصحاً، فقد عرف الشباب بأنفسهم كيف يوجهون بعضهم ويخففون الغلواء فحل العقل محل الغضب، رأيت بعيني خلال الأيام المجيدة في تشرين ٢٠١٩ كيف تجسّدت انعطافة في وعي الشباب، خلال وجودي في الساحة طوال شهرين ونصف تعرفت على شباب الساحة من خلال المشاهدة وأحاديث مطولة تحوّلت الى كتاب سيصدر عما قريب، مواقف المثقفين من الانتفاضة متفاوتة تماماً، بعضهم مشارك فعلي فيها ومن داخلها محرض ومنظم، بعضهم الآخر سجل حضوراً أخذ صورة ثم توارى، وهناك مَن اتخذ موقفاً معادياً لها مع السلطة حيث مصدر رزقه.