مهما بذلتْ تيارات الإسلام السياسي المتشدّدة من جهد، أو لبست من أقنعة الإخفاء والتمويه، فأنها تعجز عن إزاحة جوهر الصراع الذي تخوضه ضد المجتمعات الإسلامية، بوسائل التكفير والتطهير والإبادة. وهو صراعٌ لا علاقة له بـ"صحيح الدين" أو "الدعوة" للالتزا
مهما بذلتْ تيارات الإسلام السياسي المتشدّدة من جهد، أو لبست من أقنعة الإخفاء والتمويه، فأنها تعجز عن إزاحة جوهر الصراع الذي تخوضه ضد المجتمعات الإسلامية، بوسائل التكفير والتطهير والإبادة. وهو صراعٌ لا علاقة له بـ"صحيح الدين" أو "الدعوة" للالتزام بفروضه وأركانه واحياء قيمه الإنسانية السامية، في عصر الانفتاح والتعددية والتنوع التي تؤطرها العولمة المتسيّدة. واذا كانت تجليات تيار الاسلام السياسي التنظيمية و"الدعوية" الممهدة لها، "تلتقط" مريديها وأنصارها من "قاع" المجتمع، ومن اطرافه المتشربة بالمعاناة من البؤس والمرض والفاقة والاميّة والبطالة، فإن ذلك شكلٌ لا يعكس المشروع الحقيقي له، ولا يجسد انحيازات برنامجه الاقتصادي، الذي يتكون ويتبلور في مجرى حيازته للسلطة السياسية، وهيمنته على الدولة التي يعيد تشكيلها وهيكلتها.
إن النماذج القائمة للدولة الدينية "الإسلامية"، إنما هي إعادة إنتاج مشوهٍ "للدولة - النظام" الرأسمالي المتخلف، المتشابك مع أنماط ما قبل الرأسمالية. وما يختلف فيها، هو السلطة السياسية المبنية على تركيبٍ كيفيٍ انتقائي من التشريع الإسلامي، مستند الى مرجعية مذهبية محدّدة وما تنطوي عليه من فقه واجتهاد وفتاوى.
ولا يمكن لسلطة هذه "الدولة- النظام" إلا ان تجسد مصالح ونزعات "الطبقات العليا" في المجتمع، التي ترعاها وتصونها القيادات المتصدرة لتنظيمات التيار وأحزابه، والتي ينحدر بعضها من تلك الطبقات وتجتمع فيها تلك المصالح. وبطبيعة تكوينها ومصالحها، لا تستطيع الاستجابة لأي تطلعٍ تراهن على تحقيقه الطبقات الدنيا في المجتمع، التي تنطلق الحركات واحزاب الاسلام السياسي، من بيئتها، وتتحرك على نزوعها للخلاص من الفاقة والتهميش والاضطهاد، لأنها غير معنية بذلك ولا تعبر عن نبضها، ولأنها في الاصل لا تمتلك مشروعاً اقتصادياً واجتماعياً تنموياً للإصلاح، خارج اطار المنظومة الرأسمالية، بطبعتها المتخلفة، والمشوهة.
ولدينا الآن، أمثلة على الضفتين المذهبيتين، لنمط الدولة "الاسلامية - الدينية"، في السودان، وأفغانستان "طاليبان" ومصر "الإخوانية" قبل ان تنزاح، والدولة شبه الدينية في واقع الحال في العراق، والإسلامية بامتياز من حيث هوية السلطة السياسية، والجمهورية الإسلامية في ايران التي تقدم نموذجاً للحكم الإسلامي الشيعي "النقي" من اي شائبة سياسية او مذهبية، ومن الجانب الآخر، المملكة العربية السعودية الدينية- الوهابية، دون منازع.
ان ما تلتقي في اطاره جميع هذه الانظمة، دون استثناء، هو طابعها الاقتصادي- الاجتماعي، شبه الرأسمالي، من حيث الجوهر والشكل، المطعّم بروافد دخيلة، تعيق بعض آلياته، وتشوه نتائجه، وتموه على هويته، كما لو أنه "مُنتجٌ إسلامي" لا علاقة له بالرأسمالية! لكن طابع الانحياز للرأسمال ومصالح الفئات العليا المتشكلة في رحم النظام - الدولة الجديدة، او المتحولة من الانظمة السابقة، المكيّفة بغلالة اسلامية، المتصاهرة مع بيروقراطية الدولة والمال المتنفذ فيها.
وليس في اي من هذه الانظمة- الدول، ما يعكس مصالح الطبقات والفئات الدنيا، من الفقراء والمعدمين، وذوي الدخول المحدودة، وشرائح واسعة من الطبقة الوسطى. ويتعذر ايضاً تلمس وسائل تبتكرها هذه الانظمة للتخفيف من معاناتهم، او تستحدثها بقوانين، لإقامة حدٍ من حدود "العدالة الاجتماعية" التي كانت هاجساً أرَّق الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في أواخر حياته، وجوهر مشروع الإمام علي ابن ابي طالب، وابرز الصحابة، حاملي المشروع، الذين استشهدوا دفاعاً عن المبادئ التي مثلته.
بل العكس تماماً من هذا، يتجلى في تزايد نسبة الفقر والفاقة والبطالة ومظاهر التسول والعيش في المقابر وبيوت الصفيح في هذه البلدان المحكومة بالاسلام السياسي.
ولنا في العراق "معرضٌ مفتوح" على مصراعيه، مكشوف على عوراته، بلا خجل او حياء او مساءلة، لكل المظاهر الفاضحة، من نهب وفسادٍ مستشرٍ ورشىً وإنعامٍ من خزينة الدولة ووظائفها، على الاهل والأقرباء وأبناء وبنات الحزب والمتصاهرين معهم! وهي كلها مظاهر وممارسات لا يربطها او يجمعها حتى نسيجٌ هش مع قيم الاسلام الاولى، أو مع ما كان يمّيز نهج وسياسة ومبادئ وقيم الامام علي وصحبه. بل هي بالتفاصيل، ما تُجَسد قيم ونهج ومبادئ وسلوك معاوية وخلفاء الدولة الأموية..!
والصراع الذي تخوضه قوى الإسلام السياسي، في سائر الحواضر العربية والاسلامية، هو استدراج لمجتمعاتها الى بدايات انبعاث الفتنة التي أطلّت على المجتمع الإسلامي، بعد وفاة النبي الكريم، وتفاعلت، واتخذت لها صيغاً شتى، كلما بان التناقض في تطبيق ما جاءت به الرسالة المحمدية، وازداد البون الشاسع في المجتمع الإسلامي الراشدي، في مجرى تطوره، بين عامة المسلمين، وخاصته من الطبقات العليا، بين الأغنياء الذين ازدادوا غنىً وبين الفقراء الذين ازدادوا فقراً وتهميشاً، حتى بلغ شأواً انحصرت الخاصة فيه بآل أمية، والعامة بكل المسلمين ومن لا يرى في الحاكمين وإدارتهم لشؤون المسلمين تعبيراً عن الإسلام وما جاء به القرآن الكريم والسنة النبوية.
وصراع اليوم، تستحضره قوى التيار الاسلامي، السلفي، والمتشدد، والرحيم، بما كان فيه المسلمون الاوائل، من لباس ولُحىً ومداس، لا فرق، سوى انهم لا يمتطون الخيول والدواب، بل آخر الطرز من "المراكب" الحديثة، ويتعطرون بالعود المستورد المصنّع خصيصاً على الطريقة الاسلامية "بلا كحول"، ويتعاملون بالدولار القطري والخليجي المتيسر.
واذا كانت الفتنة الكبرى التي انفجرت في رحم الخلافة الراشدية، قد استطاعت ان تمزق النسيج الاجتماعي الاسلامي، وحولت المسلمين الى شيَعٍ واحزابٍ يقتل بعضها البعض، ويقيم البعض منها على حساب البعض وفوق جثث مئات الالاف من المسلمين، سلطة استبدادية "دنيوية" تحكمها وتسيّرها تشريعات اسلامية انتقائية، وفقاً لمصالح الطبقة او العشيرة الحاكمة، الأموية، العباسية، الفاطمية، العثمانية، فإن الفتنة الكبرى التي أيقظتها "قبائل الجاهلية" الجديدة، وضعت العالم الاسلامي بكل مجتمعاته امام مفترقٍ لن يفضي، اذا لم تستطع القوى الحية الواعية فيها ان تستدركه، إلّا الى الطرف القصيّ من سير المجتمع البشري المتحضر. وليس في طالع أي مجتمع إسلامي، لا ينهض او يعي، او ينفض عنه أسمال التعصب والتنافر المذهبي، وغلواء التابوات المحرضة على التكفير، بشارة سلامة من ظلامٍ يطفئ ما تبقى من أملٍ ورجاء.
اكتشاف خديعة دعوات الاسلام السياسي، المتمثل في الاخوان المسلمين في مصر، فضحتها ممارسات اقل من سنة في حكمٍ جائر. وخديعة طاليبان والبشير، والتشدد الوهابي، ومنظومة الفساد والجور في عراق غلاة حزب الدعوة ودولة القانون، تُعرّي أي ادعاءات بمشروع اسلامي، يستنهض المجتمع، ويرفع من مكانة المسلم، وسويته، ويضعه في مصاف حال انساني، لا تتقاذفه المذلة والفقر والتعديات والتمييز والقتل على الهوية، وصنوف الاستباحات "المتطهّرة من الاسلام".
ليس للدين واعلاء شأنه علاقة بالجماعات السياسية الاسلامية ومقاصدها.
ورغم التطور الحضاري الذي هيمن على طرفٍ عاقلٍ دون طرف في عالم اليوم، ومع ما انتشر من قيم وعادات وافكار بين المسلمين، فان انحياز المسلمين لهويتهم، فاق ما كان سائداً في عصور الخلافة والامبراطورية الاسلامية التي كانت تتصدع بالفتن والحروب والانكسارات التاريخية. لم يتراجع التدين ومظاهره السمحة بين المسلمين، بل ازداد التفاوت في التطور داخل المجتمعات الاسلامية، وبين الدول الاسلامية. وأدى تضخم الثروات وتركزها في فئات محدودة في الطبقات العليا، وتداخلها في بنية السلطة، إلى تعميق التفاوت والنقمة والتشظي.
والإسلام السياسي، ما هو إلا تنويعٌ آخر على هامش الثروة والسلطة، يعتاش على هذا التفاوت ومستنقعاته، ليتحول الى حاضنة له، يعيد له سطوة يديمها، ويجدد عهدها، بقوة الدين والمذهب، ويكرس تابواتٍ لا تقبل بغير السمع والطاعة.
بين الإمام علي وتيار العدالة الاجتماعية الذي تزعمه، وسار على طريقه ابو ذر وسلمان الفارسي وعمار بن ياسر، مع رهط معاوية بن أبي سفيان، المساحة التي تفصل الإسلام الأول، والمتنكرين لما بشر به من قيم ودلالات رأى فيها، الفقير والعبد والموالي، رسالتهم ومطمحهم.
في صف معاوية، تجمع أعيان بني أمية، وكبار أغنياء قريش، وفي صف علي وصحابة النبي الأوائل، وقف دعاة العدل والمساواة والرحمة، وهم معروفون لرجالات حكم العراق المبتلى اليوم:
فأين يصطف من ينهب ويسرق ويغتني دون وجه حق، ويحتكر السلطة، ويتلاعب بأموال الدولة وأرواح ومستقبل العراقيين..؟
اين هو موقع قادة الدولة اليوم، بتوصيفهم الحقيقي، وليس الادعاء والانتماء بالوراثة العمياء.. مع الامام علي ام معاوية..؟!
يتبع...
جميع التعليقات 3
خليلو...
متى ما انتهيت من كتابة هذه الحلقات ليت ال mada press تصدرها مجموعة في كراسً لكي يتسنى لمن فاته متابعتها ضمن إصدارات المدى اليومية فإنها تمتاز بالعمق الى جانب لغتها الرصينة جداً اتمنى تحقيق هذا الطلب عند سنوح الفرصة لذلك / ملاحظتي هذه ليس القصد منها نشرها
شكري العراقي
تحياتي الى العزيزالغالي ابانبيل انهم يحكمون انفسهم بانفسهم
حامد اسماعيل حسين
الاستاذ الفاضل فخري كريم المحترم-لدي اقتراح كوني مواطن كوردي اعيش في المهجر من زمن الطاغية ابن العوجة واناارى بعد التغير ياتي دكتاتور جديد طويرجاوي بدل العوجة يحاصر شعب كوردستان اقتصاديا وهذا لامر خطير لان لرئيس الوزراء صلاحيات محددة من ترك المجال لتماد