(2-2)
في أعمال الرسامة العمانية نادرة محمود يتوجّب التأمل في السبب الذي يجعل أعمالها التجريدية ذات خصوصية، ويمنح تجريدها هذه الشعرية العالية. اقترحنا في القسم السابق إعادة فحص مفهوم التمثيل لهذا الغرض.
لنلاحظ أن التمثيل لصيق بهواجس الذات المُمثِّلَة وشجونها، ذلك أنه من الصحيح أن الإنابة (لوحة لكرسي تنيب عن الكرسيّ الحقيقيّ) تشكّل جوهر التمثيل، لكنه صحيح تماماً أن من يقوم بالإنابة لا يقوم سوى بتقديم ذاته أثناء التمثيل (لوحة الكرسيّ نفسه تختلف بين الفنانين اختلافاً كبيراً حسب هواجسهم وأساليبهم ومفاهيمهم عن العالم: الكرسيّ في هذه الحالة).
الواقع المرئيّ المعروف هو مرجعية التمثيل، وهو المرجع الصريح للفن التشخيصي.
في فن نادرة محمود يغيب التمثيل، أو يضيع، أو يمَّحي، أو يحتاج إلى عُدّةٍ أخرى جواره. تصير مرجعيات لوحاتها مُلتبِسة التباساً سعيداً، ولا يكفي الواقع- المرجع وحده لتأويلها. إننا لا نرى من الأشياء الفعلية شيئاً يُذكر، لا نتلمّس إلا بقاياها، ولا يتبقى من هذه الأشياء إلا ذكرياتها البعيدة. إنها تضيع وتمّحي في أثر جديد، في عمل فني، يُعبِّر عن جوهر الأمر وخلاصته، عن خلاصة العالم كما تراه الفنانة. وإذا ما توهَّم أحدٌ أنه يرى نافذة أو باباً أو كأساً أو غيوماً، فلأنه قد اعتاد العودة إلى مرجعيات الواقع في صورة ذهنية ثابتة من أجل قراءة مريحة. وهذا ليس دائماً شأن الأعمال التجريدية عموماً، ولا شأن أعمال نادرة التي تعنينا هنا.
هذا وجه واحد من المسألة، لأن أعمال نادرة، بصفتها رسماً في الغالب أو غرافيكاً، لا يمكن إلا أن تكون تمثيلاً رغم ذلك. لا يمكنها المروق نهائياً عن فكرة التمثيل طالما أنها تَخْرج عن مرجعياتٍ عليها أن تكون موجودة في مكان ما. هنا أمر يعقّد المشكلة ويساعد على القراءة الجمالية لأعمالها. وبشأنه علينا العودة مرة أخرى إلى مفهوم التجريد في الفن المعاصر، ونرى الكيفية التي تطوّر بها. يحيل معنى التجريد في فن التصوير إلى النزعة اللا- تمثيلية واللا- تشخيصية رغم أننا يمكن أن نجد في بعضه صوراً ما، غامضة أو صريحة. ترقى أوائل أعمال التجريد كما نعرف لبداية القرن العشرين في أعمال كاندنسكي وكوبكا وموندريان ومالافيتش التي لعلنا نستطيع مقارَبتها بتجريد الموسيقى، وهي تذهب مرة إلى اللطخات اللونية التي لا تمثل شيئا بعينه، ومرة إلى الموتيفات الهندسية الصارمة.
إن نقداً يسعى لقراءة أعمال نادرة محمود يمكنه اقتراح لغة الموسيقى دليل على طبيعتها الداخلية، لكنه يمكن أن يستهدي بالشعريّات، وليس بفن الشعر في هذه القراءة. وهذا موضوع يحتاج تفصيلاً ليس مكانه هنا.
وإذا ما كان التجريد في الفن الأوروبي قد فُهم على أنه لغة بلاستيكية لا تهتم بالظاهر المرئيّ للعالم الخارجي، لكنها تسعى إلى اكتناه إجمالية الواقع، بل تشدّد على التصدّعات والشقوق المُستشعَرة إزاءه. فإن هذا الفهم لا ينطبق إلا بشطر منه على أعمال نادرة. صحيح أنها لا تهتم بالظاهريّ، لكنها لا تبدو معنية فلسفياً بالصدع الوجوديّ الذي وسم الكثير من الفنانين الأوروبيين: إنها معنية بالوجود الروحانيّ المتجلّي عبر أشياء الواقع. لعل الوجود الروحانيّ في حالتها هو الرديف لصدعٍ وجوديّ هناك.
لا مجال للحديث عن إخلاص للمرئيّ ولا قيمة كبيرة للمحاكاة التي وسمت الفن والشعر الأوروبيين منذ كتاب (فن الشعر) لأرسطو. بقايا الواقع هي التي تفوح في أعمال نادرة التي تُحاكي لكي تمحو، وتمحو لكي تُحاكي أمراً أبعد عن الواقع الذي يمكن أن نستشعره، وأقرب إلى جعل الأخير نوعاً من الفوحان الروحيّ والطقسيّ المتجلّي بالقليل من الألوان والمُخْتصَر من الأشكال.
شعرية التجريد
[post-views]
نشر في: 7 مارس, 2014: 09:01 م
يحدث الآن
مجلة بريطانية تدعو للتحرك ضد قانون الأحوال الشخصية: خطوة كبيرة الى الوراء
استشهاد مدير مستشفى دار الأمل الجامعي في بعلبك شرقي لبنان
استنفار أمني والحكومة العراقية تتحرك لتجنيب البلاد للهجمات "الإسرائيلية"
الـ"F16" تستهدف ارهابيين اثنين في وادي زغيتون بكركوك
التخطيط تحدد موعد إعلان النتائج الأولية للتعداد السكاني
الأكثر قراءة
الرأي
مصير الأقصى: في قراءة ألكسندر دوجين لنتائج القمة العربية / الإسلامية بالرياض
د. فالح الحمــراني يتمحور فكر الكسندر دوغين الفيلسوف السوفيتي/ الروسي وعالم سياسي وعالم اجتماع والشخصية الاجتماعية، حول إنشاء قوة أوراسية عظمى من خلال اتحاد روسيا والجمهوريات السوفيتية السابقة في اتحاد أوراسي جديد ليكون محط جذب لدائرة واسعة من...