سأطرح سؤالاً بصدد مدن مثل بغداد والقاهرة ودمشق: هل نظام البناء في مدينتها العتيقة أكثر انفلاتاً وفوضى من عمارات الأحياء "الحديثة" الحالية؟.
أحسب أن قراءة للخطط المعروفة (أي المحلات السكنية) للمدينة العربية الإسلامية، التاريخية القديمة، تظل مخططاً مثالياً لم يتقيّد به الواقع. جميع الصفات النظرية عن تخطيط وشروط المدينة في العالم الإسلاميّ تتجاهل بشكل شبه تام الفوضى التي وسمت منذ البدء العمارة المدينية.
فُسّر تقسيم المدينة الإسلامية إلى خطط "محلات سكنية" على أنه كان انعكاساً للصياغة الإسلامية التي قبلت "بالطبيعة القبلية وأكّدت على رابطة صلة الرحم بين أفراد القبيلة الواحدة، وتجميع القبائل في خطط متعددة تجمعها مدينة واحدة ذات كيان مادي متكامل وإطار من التآخي" كما يُقال.
هنا يقع الحديث عن نظام، أي انتظام يُسمّى بإقطاع السكك والأحياء التي لم تَبقَ أحياء منعزلة إلا لوقت قصير، لتتراكب في ما بعد بشكل كبير. سنجاري هذه الفرضية لضرورات فهم "الفوضى" العمرانية التي وسمت مدن الإسلام.
إن أدقّ تخطيط، شبه رياضيّ، نعرفه للمدن الإسلامية، مخطط بغداد المدوَّرة (وما نجده حتى اليوم في مخططات المدن التي بنيت بغداد على شاكلتها كمدينة فيروزآباد) الذي يجعل المسجد في قلب المدينة (وهو يمثل الأغورا اليونانية)، لم يمنع نمواً عشوائياً للسكن حواليه. الفوضى الراهنة لِمَا تبقى من المدينة البغدادية القديمة هي يقينا ما كان يَسِمُها في عصرها العباسيّ، وما يسِمُ مدن العراق الأخرى كالبصرة، حيث الأزقة ضيقة والمشربيات متداخلة ومتقاربة.
كل المدن الإسلامية خضعت لـ "نظام فوضويّ" رغم التخطيط الافتراضي المثالي، فكان تخطيط الفسطاط يقوم على إعطاء كل قبيلة قطعة من الأرض تقيم فيها مساكنها ويفصل بينها وبين غيرها مساحة فارغة من الأرض طواها في ما بعد التوسّع العمرانيّ. جميع الأحياء السكنية التي هي المساحة المرئية الأكبر في المدن الإسلامية، تتابع مخططاً "لا نظامياً"، في الفسطاط وبغداد وفاس والقيروان ودمشق وغيرها.
يهمّنا من بين جميع عناصر التكوين الداخلي للمدينة (مبدأ الفوضى) في وسط (النظام المُفترَض) غير المتحقق حسب المراجع العديدة.
المبدأ المتبع دائما هو: تكتُّلٌ من الخلايا الأولية للسكن تتميز ببنُى عنقودية، وتتوفر بشكل عام (ليس حصرياً) على نهايات مغلقة تحدد طبيعة وشكل كل حيّ سكنيّ. على هذه الشاكلة من الفوضى تطورت، من حينها، المدينة العربية الإسلامية كما نراها اليوم، رغم كل نوايا التخطيط التي يطالب بها المشرّع أو الفقيه أو الحاكم. إننا في قلب الخلايا التي ظلت تتراكب وتتراكم طيلة القرون إلى يومنا في داخل سور نظاميّ غالباً.
إذا ما حاولت (نظرية الفوضى) الشهيرة اكتشاف النظام المُضْمَر في العشوائية الظاهرة للعيان محاولةً وضع قواعد لدراسة أنظمة مثل السوائل والتنبؤات الجوية والنظام الشمسي واقتصاد السوق وحركة الأسهم المالية والتزايد السكاني، فإن نظامها الديناميكي المقترَح هو أيضا نظام سببيّ معقد على ما يبدو، نظنه للوهلة الأولى فوضوياً بسبب غياب الشروط البدئية (تأثير الفراشة) أو عدم معرفتنا بالطبيعة الفيزيائية الاحتمالية لميكانيك الكمّ. يُسمّى النظام الديناميكيّ فوضى إذا كان جزء مهمّ من مراحل فضائه يقدِّم بشكل متزامن الخصيصتين التاليتين: الحساسية للشروط الأولية، ثم الاستعادة القوية للظاهرة. يقود وجود هاتين الخاصّيّتين إلى سلوك غير منضبط بشكل كبير يُوصف بحق بأنه "فوضوي".
لا يمنع اتّسام بناء المدينة العتيقة بالفوضى من أنها تقوم كذلك على احتمالية الانتظام المعماريّ الخلويّ الذي لا يقف ظاهرياً على قاعدة ثابتة، لكن تمّ اكتسابه بالفعل عبر الخبرة الطويلة والتجربة والمراقبة، والحذر من عدم اختراقٍ جذريّ لقواعد البناء الرياضية المعروفة من قبل المهندسين أو من يقوم مقامهم. ولعل الخلايا السكنية هنا تستجيب إلى فكرة جوهرية في نظرية الفوضى ونظامها الديناميكيّ وهي: إن التطوّر غير المتقطع زمنياً يقود إلى فوضى منظَّمة، أو نظام فوضويّ.
مدينة بغداد العتيقة أقلّ فوضويّة من الحديثة.