(١)ليس في شخصية واحدٍ منهم ما يغري أشباه هذا الزمن، لا من حيث التكوين ولا في حوامل القيم، ولا حتى في السحنات والملامح المضيئة. ومن عجائب الحياة ان اشكال الناس هي الاخرى لا تعكس بصماتهم الوراثية فحسب، الى جانب بناء قاماتهم ورفد أجسادهم بما يقتضي أن
(١)
ليس في شخصية واحدٍ منهم ما يغري أشباه هذا الزمن، لا من حيث التكوين ولا في حوامل القيم، ولا حتى في السحنات والملامح المضيئة. ومن عجائب الحياة ان اشكال الناس هي الاخرى لا تعكس بصماتهم الوراثية فحسب، الى جانب بناء قاماتهم ورفد أجسادهم بما يقتضي أن تكون عليه بوشم محياهم بعلامات العافية والتفاؤل الصبور أو بإظهار مكنوناتهم الفظة أو العبوسة أو الأنانية
بل تعقد من خطوط ملامحهم تضاريس تجسد ما أضفت عليهم البيئة الأسرية والاجتماعية والمحيط الثقافي من خواءٍ أو غنىً روحي، تبدو فيها ما هم عليه من إثرةٍ واستعدادٍ للبذل والعطاء، وطاقة على التواصل بمحبة ونكران ذات مع كل من يظهر على درب حياتهم. ومن السهل ان تكتشف في كل واحدٍ منهم صورة الآخر، وهو يصارع الأقدار بالنيابة عن غيره أو عن المجتمع، ولا يرى في أكبر التضحيات مقاماً للادعاء أو فريضة للمساومة والتنازع.
إن مواقيت ولادة ووثوب كائنات الأصوات الاربعة، الى الحياة، في العشرينيات والثلاثينيات من القرن العشرين، قد يكون سبباً لتماثل مصائرهم في ذلك الزمن المفتوح على الامل، وقد يكون في اساس المصادفة الحياتية التي رافقت مسيرتهم ومصائرهم. كانت سنوات تفتحهم وانغمارهم في معترك الحياة مجس اختبار لقدرة كل واحدٍ منهم في ان يتوحد مع اشواق أناس ذلك العصر المزحوم بالاحلام والعاصف بالتغيرات العميقة، وأن يغذ السير في دروبهم المحفوفة بالمخاطر والتحديات، وقد يتسنى له أن يستريح في المعابر الضيقة المفضية الى الدرب المنذور "للمعاصي الملفقة ". وتلك هي بداية الوعي بطبيعة التناقضات التناحرية والقوى الاجتماعية التي تضفي طابعها على المجتمع وحراكه، وتجعل من آليات تطوره، اداة اغتراب ومصادرةٍ لكدّ المنهكين من البؤساء الموعودين بالجنّة في الآخرة، دون كفالة بشيء على الأرض.
أربعة أصوات تنتمي الى احياء "الاعيان" و" السادة"، أما الخامس فهو البشير بولادة عالم جديدٍ يتساوى فيه البشر، وتزول من الحياة، كما من كتب اللغة وقواميسها، مفرداتٌ نحتتها مجتمعات العبودية والاستغلال والتمييز، ملأت الدنيا، منذ فجر البشرية، جوراً وعذاباً وحرماناً وبؤساً مقيماً حتى يوم القيامة!
كان ممكناً ان تزول حوامل تلك المفردات والقيم، في اعتقاد الصوت الخامس " البشير " ، وتمحى مع زوالها دلالات اللغة والقواميس على ما تنتجه من بؤسٍ، مع زوال التفاوت واشكال التمييز والعبودية الطبقية، واستغلال الانسان كأداة انسحاقٍ، وليس ككينونة انسانية تفيض بطاقتها ينابيع السعادة والحبور والفرح الانساني المتدفق بلا انقطاع..
شاءت الاقدار، ان تظل الاصوات حيّة، بعد ان كادت الامنيات التي تفتحت معها سيرة كل واحدٍ منهم، أن تتحول الى مجرد ذكريات من زمن جميلٍ متوهج، وبقايا أثرٍ لوعود ضاق الزمن الرديء بها، لما انتهى اليه من رثاثةٍ وضحالةٍ وتدنٍ في القيم والمبادئ، وتقهقرٍ الى منابت الجهالة والجاهلية المعرفية.
أصواتٌ اربعة، قادتها حساسيتها الانسانية المتوقدة، ووعيها المبكر للاستجابة لنداء البشير، والمضي في السير على دروبه، دون ان تثنيها وعورتها او ثقل تضحياتها. كانت وهي تتلمس بدايات الطريق، تزداد يقيناً بقوة المثل الذي يتجسد في البشير، وهو ينمو وتتسع ميادين دعوته، ويتكرس نفوذه ليصبح مع مرور الزمن كياناً يحتمي بتاريخه، ويلوذ باتباعه وما يبذلونه من استعدادٍ على مواصلة المشوار، للتبشير بالجنة على الارض في كل مدن العراق، واريافه، مصانعه وبيادره، مضايف الشيوخ، وبيوت الصفيح، سهوله ووديانه وجباله.
في دروبه سفك المستبدون دماءً زكية ضمّخت ارض السواد، وتعذب في مسالكها الآلاف وهم يمنحون الحياة، بتضحياتهم، البهاء والجمال والازدهار، ويعمدونها بالدم والعذابات، لتكون واحة وارفة تفرد خبايا ذاتها، بوسائل وأدوات العلم والمعرفة والفن والثقافة، لتصبح أوفر عطاءً، واكثر أماناً، وأجدر بقامة الإنسان..
أربعة أصوات من زمن التوهج، تبادل كلٌ منهم دوراً من أدوار البشير، وصار حامل مشعلٍ من مشاعله، ومعلماً من معالم قيامته في المستقبل.
قبل اثنتين وثلاثين سنة من الآن، اعتلى الشاعر اللبناني الجميل شوقي بزيع مسرح الجامعة العربية في بيروت، ليُقدم اربعة شعراء، تتسامق قاماتهم في دنيا الشعر، وليقول بصوته الآسر:
اسمحوا لي ان اقدم لكم في هذه الامسية النادرة التي تضيق بقامات، يكفي الواحد منها، لتضيق به محافل للادب والشعر والفن، سوى اننا بصدد مناسبة فريدة ليست مثل كل المناسبات، مناسبة تحفل بسجلٍ من مآثر تاريخية تمتد، ظلت وستظل عصية على قهر الطغاة والمستبدين الذين ارادوا ويريدون اطفاء وهجها وإخماد جذوتها.. اسمحوا لي ان اقدم لكم أربعة اصواتٍ، اربع قامات سامقة وخامسهم الحزب الشيوعي العراقي...
كان ذلك قبل ثلاثة عقود وأزيد بعامين..
واليوم أتم الصوت الخامس، من العمر والتاريخ، عقده الثامن، متحدياً صروف الزمن وتقلباته وآثاره، ومقدماً معنىً آخر للعنفوان والقدرة على التجدد...
(الأصوات الأربعة في العدد القادم)