TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > غريزة أساسية!

غريزة أساسية!

نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 05:02 م

أخطر ما يمكن أن يتعرض له إنسان هو أن تكون له طاقة كبيرة دون أن يعرف أين ومتى وكيف يستثمرها. في فترة الصبا مثلاً حيث تتفتح قوى الفرد، جسداً فتياً وعاطفة مشبوبة وحساسية فائقة تجاه كلّ شيء، تجد الحيرة في صرف هذه الكنوز التي يمتلكها، يغدو العالم أضيق من أن يحتمل هذا السيل من القوة الجسدية والنفسية، ولذا فإن المراهق عادة يباشر كلّ شيء بتطرفٍ، بمبالغة وتهويل واندفاع إلى أقصى، ولأنّ إفراغ الطاقة عنده يصبح أهمّ من كلّ هدف، فلا مفرّ من أن يتناقض، يأتي بالشيء وضده في آن، يغدو شبيهاً بنهر متدفق يبنى عليه سدّ في مكان ليروح يحفر مجراه في زاوية أخرى.
في فترة الاحتراب الطائفيّ رأيت في منطقتي حيث أسكن مراهقين نزلتْ عليهم الحرب الأهلية هبة إلهية أنقذتهم من عدم قدرتهم على صرف قواهم وغضبهم وبرمهم بضيق العالم، وجدوا أنفسهم في الحرب كأنهم في بيتهم الأليف، ليسوا مجرمين وربما لم يستخدم كثير منهم السلاح، لكن حمل السلاح، والتلويح به وإمعان النظر في خوف الآخرين منهم، يجعلهم محفوفين بالنعمة التي لا يجدونها في موارد "باردة" كالدراسة والرياضة أو ممارسة الهوايات السلمية.
تعرف الحرب كيف تستنفد قوى زائدة عند المراهق. لكن مراهقين آخرين لم يقعوا على خيار العنف المهدّئ للغرائز، اضطروا إلى تجريب تطرّف آخر لكنه سلميّ وبريء ولا يخيف أحداً أو يسبب له ضرراً، خذ ظاهرة الإيمو مثلاً، هي أيضاً محاولة لا واعية منهم لتسكين غرائزهم، للتصالح معها، أو للتنفيس عنها.
هؤلاء الشبان الذين كانوا بالأمس ينظرون من طرف خفيّ إلى أعين الناس المبهورة بهم وسلاحهم، لم تعد بيئة الحرب تغريهم، لأن رمز الفتى المسلح حامي الطائفة أو حارس المدينة انتهى ولم يعد أيقونة تغري الناس بالالتفات إليها والإعجاب بها سراً أو جهراً.
رجع الشباب إلى حياة السلم يجربون أنواعاً أخرى من التطرف تتيح لهم تهدئة حيوان الغريزة الذي لا يرحم.
أمس نشر موقع السومرية نيوز تقريراً عن فتيان القاعدة في ديالى، وكيف بدأوا يتحولون إلى إيمو، في التقرير حوارات مع حلاقي المدينة الذين قالوا إن أغلب من يأتي مطالباً بقصات الإيمو هم مقاتلو القاعدة السابقون من الفتيان الذين ضجروا من العنف بعد أن أصبح غير قادر على خلق البطل في داخلهم.
شخصياً لم أستغرب ذلك، لديّ شواهد كثيرة على أن فتياناً "عقائديين" انتهتْ مدة صلاحية العقيدة لديهم منذ أن كفت عن كونها مولّدة لهياج يفضي آخر الأمر إلى العنف. فالفتى لا يطلب العنف لذاته بل يريد عنفاً من شأنه أن يخلق منه أسطورة، وبانتهاء هذا العنف تعود الحرب مجرد قتل لا معنى له، وهو ما لا يريده الشابّ المأخوذ بتحويل عجينة روحه إلى تمثال بطل.
كلما ركن المجتمع إلى السلم، انتقل شبان أكثر فأكثر من العقائد القاتلة إلى الإيمو، كما هم يملأون العالم المسالم اليوم في كل القارات، متطرفون؟ نعم لكنه تطرف غير مضرّ.
بقي أن تسمح لهم الحكومة بممارسة تطرّفهم على أجسادهم من قصات شعر وملابس غريبة، وأن تصبر على تطرّفهم المسالم كما صبرت الحكومة وتصبر على تطرّف الإرهابيين وأصحاب الكواتم الذين يمارسون تفريغ غرائزهم على أجساد الآخرين بحرية !

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 1

  1. امل العاني

    اتابع عمود الكاتب عبد الحسين، واعجب بقدرته على اختزال افكار كبيرة بسطور قليلة معبرة ومكثفة.. لكن هنا في مقاله هذا، لم يات بجديد، الكثير حكوا عن هذا الموضوع وبتحليل اكثر موضوعية..بينما هنا كما لو هو يبرر العنف ويبرر السطحية! ماعدا السطر الاخير فيه ادانة وا

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

العمود الثامن: يزن سميث وأعوانه

العمود الثامن: "علي بابا" يطالبنا بالتقشف !!

سافايا الأميركي مقابل ريان الإيراني

العمود الثامن: صنع في العراق

فـي حضـرة الـتـّكـريــم

العمود الثامن: المستقبل لا يُبنى بالغرف المغلقة!!

 علي حسين منذ أن اعلنت نتائج الانتخابات البرلمانية الأخيرة، والطاولات الشيعية والسنية تعقد وتنفض ليس باعتبارها اجتماعات لوضع تصور للسنوات الاربعة القادمة تغير في واقع المواطن العراقي، وإنما تقام بوصفها اجتماعات مغلقة لتقاسم...
علي حسين

إيران في استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة

د. فالح الحمـــراني تمثل استراتيجية الأمن القومي الأمريكي الجديدة، الصادرة في تشرين الثاني تحولاً جوهرياً عن السياسات السابقة لإدارتي ترامب وبايدن. فخلافاً للتركيز السابق على التنافس بين القوى العظمى، تتخذ الاستراتيجية الجديدة موقفاً أكثر...
د. فالح الحمراني

ماذا وراء الدعوة للشعوب الأوربية بالتأهب للحرب ؟!

د.كاظم المقدادي الحرب فعل عنفي بشري مُدان مهما كانت دوافعها، لأنها تجسد بالدرجة الأولى الخراب، والدمار،والقتل، والأعاقات البدنية، والترمل، والتيتم،والنزوح، وغيرها من الماَسي والفواجع. وتشمل الإدانة البادئ بالحرب والساعي لأدامة أمدها. وهذا ينطبق تماماً...
د. كاظم المقدادي

شرعية غائبة وتوازنات هشة.. قراءة نقدية في المشهد العراقي

محمد حسن الساعدي بعد إكتمال العملية الانتخابية الاخيرة والتي أجريت في الحادي عشر من الشهر الماضي والتي تكللت بمشاركة نوعية فاقت 56% واكتمال إعلان النتائج النهائية لها، بدأت مرحلة جديدة ويمكن القول انها حساسة...
محمد حسن الساعدي
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram