2
رأت آرنت في ايخمان إنسانا لايثير الحماس في دراسة سلوكه ، لأنه أصلا ليس مجبولا بالشر او النزعة العدوانية تجاه الاخر ، فهو لم يكن سوى ترساّ في ماكنة النازية ينفذ الأوامر من دون مناقشتها او حتى التفكير بنتائجها، وكان هذا هو الدافع لاطلاق نظريتها عن (الشر المبتذل) .
مثل هذا التصور لموضوع المحاكمة الذي سينشر بسلسلة مقالات لـ (نيويوركر) سيثير ردة فعل عنيفة خاصة في الأوساط اليهودية في اميركا تصل احيانا الى الاتهام باللاسامية، وهو ما يقدمه لنا الفيلم من خلال حلقات النقاش الدورية التي كانت تعقدها ارنت مع اصدقائها ، وايضا من خلال ردة فعل اصدقائها وبالأخص صديقها في اسرائيل الذي يعلن لها عن مقاطعته لها وهو على فراش الموت.
ومما زاد في إثارة الجدل في موقف ارنت وهو ما أظهره الفيلم هجوم الاخيرة العنيف على اليهود في اوروبا لمازوخيتهم وسلبيتهم في مواجهة قسوة المجازر النازية والتي كانت أصلا بتدبير خاص من قيادات يهودية كان لها دور مشين في سوق الآلاف من اليهود إلى معسكرات الموت.
الفيلم بالإجمال لم يكن معنيا بالسيرة الحياتية لآرنت وتفاصيلها قدر عنايته باستعراض أفكارها والتحولات التي طرأت عليها .. وهو ما أعطى الحوار وبناء المشاهد في الفيلم صبغة مسرحية، فالحوار كان السمة الغالبة في صياغة الحدث ، وهو ما يؤخذ على الفيلم ، وربما لم تجد المخرجة وهي بصدد استعراض أفكار ارنت وخاصة بالانعطافة المهمة فيها والمتمثلة بقضية محاكمة ايخمان وما تبعته من تداعيات لفتت أنظار الأوساط الفكرية في اميركا وأوروبا لهذه المنظرة، إلا اللجوء الى الحوار الذي طغى على مجمل مشاهد الفيلم على حساب الكثير من العناصر الاخرى .. ولكن ما خفف من وطأة هذا، على الأقل هو الأداء المتقن لبطلة الفيلم (باربارا سوكوا ) التي استطاعت اظهار الانفعالات التي تشير الى استغراق في التأمل وحيوية التفكير..
وكان يمكن ان تكون هذه الحادثة خطاً محورياً فاعلاً ضمن سياق حياة ضاجة بالفعل والاحداث والحيوات .. علاقتها بالفيلسوف هايدغر الذي درست عليه ثم وقوعها في عشقه مرّ عليها الفيلم باستحياء، أو حتى الوقوف عند حقيقة اعتناق هايدغر للنازية فترة من الزمن والتي ما زالت في طي الغموض، بل ان حياتها سلسلة من الأحداث الكبيرة ، اعتقالها منتصف الثلاثينات مع بداية المد النازي ، ثم هروبها الى باريس واعتقالها خلال الاحتلال الالماني لهذه المدينة، ثم استقرارها في اميركا ، ومقالاتها التي أثارت جدلا كبير في أميركا بداية الخمسينات.
الفيلم ينتمي الى نوع السيرة من جهة كونه يتعاطى مع الحدث الأهم الذي جعل من هذه الفيلسوفة شخصية تستحق ان تروى تفاصيل حياتها.
مخرجة الفيلم مارغريت فون تروتا تنتمي الى السينما الالمانية الجديدة ، وقد بدأت حياتها كممثلة قبل ان تهتم بافلام تتناول حياة نساء مشهورات.. فقد سبق لها ان تناولت سيرة الفيلسوفة الماركسية روزا لوكسمبورج في فيلم حمل اسمها انتج منتصف الثمانينات ، وكذلك في فيلم تناول سيرة الراهبة هيلدجارد فون بينجن الكاتبة ألمانية والموسيقية والفيلسوفة في فيلم حمل عنوان (رؤية) ، والفيلمين مع نفس الممثلة باربارا سوكوا . وقد استحقت عن دورها في روزا لوكسمبورج جائزة أحسن ممثلة من مهرجان كان في دورة عام 1986.