TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > مســـاكن مثلثة!

مســـاكن مثلثة!

نشر في: 20 أكتوبر, 2012: 05:57 م

واحدة من أهم نقاط الضعف في وعينا أنه يتجاهل القضايا المألوفة، ولا يفحصها أبداً، لأنه لا يفحص إلا ما يدهشه ولا يدهشه إلا الغريب من القضايا والأشياء. ولذلك تبقى الأمور المألوفة في حياتنا بعيدة عن تساؤلاتنا وفحوصاتنا النقدية. علاقاتنا الاجتماعية مثلاً، ومع كل ما تحفل به من غرابة، لا تثير استغرابنا، لأنها مألوفة بشدة، طريقتنا في بناء المساكن، هي الأخرى مدهشة، لكنها مألوفة، ولذلك نحن لا نسأل لماذا تكون مساكننا دائماً مربعة أو مستطيلة، لماذا ليست مثلثة مثلاً أو دائرية، بالتأكيد هناك تبريرات، لكن الفكرة أننا لا نسأل.
قبل أيام فوجئت بأن أحد أصدقائي يُخْرِج العلاقات العائلية من بين العلاقات التي تكون المصلحة دافعها الوحيد، قلت له؛ بالعكس، ربما تكون العلاقات العائلية واحدة من أبرز العلاقات المبنية على المصلحة، لكنها علاقات مألوفة ولذلك لم نفحصها بدقة لنعرف مقدار الأغراض المصلحية فيها، فنهرني قائلا: طيب، جد لي ولو مصلحة واحدة في علاقة الأم بابنها، ما الذي ستجنيه من وراء سهرها الليالي لتربيته؟
ما قاله صديقي، يعبر عن النكتة التي أريد الوصول إليها، فجميع الأمهات سخيات في رعايتهن لأبنائهن، ما يتسبب في كون الرعاية هذه مألوفة كثيراً، ولهذا السبب نحن لا نسأل عن العلة الكامنة وراءها، مظهر حنو الأم على ابنها لا يثير استغرابنا، ولا يحثنا على التساؤل.
لكن، وجواباً على سؤال صديقي، لماذا تسعى جميع النساء إلى الأمومة؟ لماذا لا يستقر لهن قرار، ولا الرجال طبعاً، عندما مواجهة مصير العقم؟ والسبب أن الطفل يعطي، دون أن يقصد، لأمه بقدر ما تعطيه، الأمومة شعور تولده هرمونات خاصة، وهذا الشعور يولد ضغطاً عاطفياً لا يهدأ إلا بعد تلبيته، فمصلحة الأم في حنوها على ولدها تكمن بتفريغها الضغط العاطفي من خلال رعاية هذا الوليد. وتفريغ الضغط العاطفي مصلحة لا تختلف عن بقية المصالح، بل إن جميع المصالح تنحل في النهاية إلى عمليات تفريغ للضغوط العاطفية. البحث عن المال والأمان والصحة، كل واحدة من هذه المساعي مصلحة تتجه نحو تفريغ نوع من أنواع الضغط العاطفي.
من هذا المنطلق نستطيع أن نفهم علَّة بقاء المسلَّمات العقائدية والفكرية وحتى العرفية، بعيداً عن التساؤل والفحص، ذلك أنها قضايا مألوفة.. وقد كان أبي، ولم يزل، ينزعج عندما أذكِّره بأن رقصة (العراضة) -وهي حركات راقصة يؤديها رجال العشائر لحظة إنشاد الأهازيج في المآتم- لا تختلف عن أي نوع من أنواعِ رقصِ الرجال، الذي يستهجن هو أكثره، فهو يرفض أن يرقص الرجال، لأن الرقص انتقاص للرجولة وامتهان لها كما يقول، لكنه لم يتساءل يوماً إن كانت العراضة رقصة أم لا، لأنها مألوفة لديه.
المغزى، أن تجاهل المألوف عاهة حرمتنا الكثير من فوائد الوعي، فلولاها لتعرضت جميع القضايا المألوفة في حياتنا للفحص والنقد والتمحيص، وكانت ستنهار أكثر الثوابت التي تهدد أمننا واستقرارنا الاجتماعيين.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق عراقيون

الأكثر قراءة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

عندما يجفُّ دجلة!

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

مأزق المكوَّن المسيحي في العراق: قراءة في محنة الوجود والذاكرة

العمود الثامن: جائزة الجوائز

 علي حسين منذ أن إطلقها الراحل سلطان بن علي العويس في نهاية عام 1987 ، حافظت "جائزة العويس" على التقدير والاحترام الذي كان يحظى به اسم مؤسسها الراحل ، والأثر الكبير الذي تركه...
علي حسين

كلاكيت: المدينة والسينما حين يصبح الإسفلت بطلًا

 علاء المفرجي – 2 – المكان في الافلام العربية كان له حضورا مكانيا ورمزيا واضحا، لكنه ايضا لم يكن هذا الحضور يتعلق بالمكان كجغرافية، أو ثقافة، او تأثير. فالقاهرة في أفلام يوسف شاهين...
علاء المفرجي

الأقليات وإعادة بناء الشرعية السياسية في العراق: من المحاصصة إلى العدالة التعددية

سعد سلّوم تُظهر القراءة في التحوّلات الأخيرة التي شهدها النظام الانتخابي بعد تعديل قانون الانتخابات عام 2023 أنّ العملية السياسية عادت إلى بنيتها التقليدية القائمة على ترسيخ القواعد الطائفية والمناطقية. وقد تكرّس هذا الاتجاه...
سعد سلّوم

عندما يجفُّ دجلة!

رشيد الخيون لو قُيِّضَ للأنهار كتابة يومياتها، لكان دجلة أكثرها أحداثاً، فكم حضارة، سادت ثم بادت، نشأت على شاطئيه، وغمرها ماؤه، مِن أول جريانه وحتَّى جفافه، هكذا تناقلت الأخبار، أنَّ المنبع حُجب بالسُّدود العملاقة...
رشيد الخيون
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram