اعلان ممول

TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > احترام القارئ

احترام القارئ

نشر في: 6 يونيو, 2014: 09:01 م

يبدو أن على المؤلف أن يحترم قارئه أعمق الاحترام. لكن من هو القارئ؟ لا بشكّل المؤلفون الآخرون دون شك إلا شريحة واحدة من القرّاء، وتظلّ الالتباسات من كل نوع تحيط بهم بصفتهم قراءً بسبب روح المنافسة المشروعة أو غير ذلك من الأسباب الإبداعية والنفسية.
عدا ذلك تبرهن التجارب أن القارئ متابع حاذق وبصير ومحايد إلى حد كبير، بسبب انتفاء أيّ منفعة أو منافسة مُعْلَنة مع المؤلف. إنه يعيش عالمه الخاص وطقوس قراءته الفردية، على الأقل في لحظات القراءة، من دون أن يعني ذلك أنه لا يمتلك روحاً نقدياً وخيارات جمالية وفكرية تؤدي به إلى تقدير النصوص المقروءة أو السجال معها. بهذه الصفة فإن مشاطرته للنص ثرية وصاحية وعادلة.
إن فكرة "المُشاطَرة" جذرية في مقام العملية الثقافية. يشوب المشاطرة بين المؤلفين أنفسهم في العالم العربيّ خلل واضح اليوم، لعدم إيمان بعضهم بالكثير من أقرانهم، لأسباب عدة، بعضها لا مبرّر له، خصوصاً مع رسوخ فكرة الأجيال بصيغتها العربية، وصعود المنافع المالية وتأثيرات السياسة ووجود التجمعات الشللية المناطقية والمحلية والإقليمية، وحتى الطائفية والمزاجية.
إذا ما قيس الأمر بقياس القارئ الذي لا يزعم حرفة في التأليف، ينتفي الكثير من ذلك كما تبرهن التجربة دائماً. إنه يُشاطر جوهرياً المؤلف إيجاباً وسلباً، قبولاً ورفضاً، وهو ما تبرهن عليه وسائل الاتصال الحديثة التي تتمّ فيها معرفة ردود فعل القرّاء مباشرة.
ينطلق احترام القارئ من روح "المشاطرة" هذه، حتى بغياب التفاصيل الدقيقة لملامح جمهرة القرّاء الذين يتبعثرون في الفضاء الثقافي بدورهم ككتلةٍ غير متجانسة في الأغلب الأعمّ. إن تملّق القارئ الملحوظ في وسائط التواصل الحديثة، عبر تعليقات بعض المؤلفين المفرطة بودّيتها ولُطْفها على ملاحظات القرّاء، لا يأخذ بنظر الاعتبار عدم التجانس هذا، ولعلّ مردوده عكسيّ عند بعض القراء الذين يدركون بسهولة أن أمر التملق لا يتعدى قط تخوم المجاملات، وليس به شيء كبير من الجديّة والعمق.
لكن احترام القارئ يستلزم بالمقابل مساجلته. فمثلما يُشاطِر هذا القارئُ ويُساجِل، وإنْ بصمت، يصير ضرورياً كما أرى أن يُشاطَر ويُساجَل وإنْ علناً. إذا كان صحيحاً ما تقترحه (نظرية التلقي) من أن القارئ يقوم بإعادة صياغة معنى النص، فإن الشروط التي تشتغل بها هذه الإعادة محاطة عربياً بما هو غير مريح ثقافياً ومعرفياً، بالنسبة للمعنيين أنفسهم، ناهيك بقارئهم. من هناك تلك الضرورة.
من البداهة القول إن مفهوم الاحترام ليس أخلاقياً فقط أو قط، بل هو مستلزم من مستلزمات القراءة التي تغدو غير ممكنة بدونه.
إن الأمثلة الملموسة عن غياب (الاحترام) والتباس (المُشاطَرة)، من واقع الثقافة العراقية والعربية الراهنة، معروفة ومن النافل الاستغراق بها، مع ملاحظة الفارق بين قارئة - امرأة وقارئ - رجل في هذا السياق، وهو أمر يحتاج إلى كلمة أخرى لا مجال لها هنا.
لا توجد كتابة لا تقترح قارئاً. لا توجد أصلاً من دونه، كالقراءة بالضبط. بهذا المعنى يَشْخص القارئ كياناً رمزياً مُبجّلاً حتى لو قام المؤلف باستفزازه ولم يطلب رضاه. من هنا تلك الحالة الرمزية الثابتة للقارئ بصفته حَكَمَا عن حق أو دون وجه حق.
نحن نحترم قراءنا لأنهم يبذلون جهداً صامتاً نبيلاً في قراءتنا، ولأن الشغف بين جنباتهم حيّ ونابضٌ، ونحن نحترم قراءنا لأنهم يسامحون هفواتنا ويصغون أحيانا كثيرة إلى هواجسنا وكوابيسنا وما لا يتفقون معنا بشأنه.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

جميع التعليقات 2

  1. نسرين اليوسفي / دهوك / كردستان

    هذا الختزال الحي في منظومة النص كلهايفرزُ بديهة بحاجة الى برهنة : أنَّ كل كاتب يحترم مايكتبه ومَن يكتب له هو قارئ محترف ، لغيره قبل نفسه . وكل قاريء هو كاتب مع غيره ولو كتبَ لنفسه . بالنسبة لي لوكان هذا على شكلِ سؤال : أقرأ لغيري أكثر مما أكتب لنفسي ، ول

  2. نسرين اليوسفي / دهوك / كردستان

    السلام عليكم ارسلت امس تعليقا على موضوعة الاستاذ شاكر لعيبي ولم اجدها اليوم مع خالص التحية والاحترام

ملحق ذاكرة عراقية

الأكثر قراءة

المتفرجون أعلاه

جينز وقبعة وخطاب تحريضي

تأميم ساحة التحرير

زوجة أحمد القبانجي

الخارج ضد "اصلاحات دارون"

العمودالثامن: جمهورية بالاسم فقط

 علي حسين ماذا سيقول نوابنا وذكرى قيام الجمهورية العراقية ستصادف بعد أيام؟.. هل سيقولون للناس إننا بصدد مغادرة عصر الجمهوريات وإقامة الكانتونات الطائفية؟ ، بالتأكيد سيخرج خطباء السياسة ليقولوا للناس إنهم متأثرون لما...
علي حسين

قناديل: لعبةُ ميكانو أم توصيف قومي؟

 لطفية الدليمي أحياناً كثيرة يفكّرُ المرء في مغادرة عوالم التواصل الاجتماعي، أو في الاقل تحجيم زيارته لها وجعلها تقتصر على أيام معدودات في الشهر؛ لكنّ إغراءً بوجود منشورات ثرية يدفعه لتأجيل مغادرته. لديّ...
لطفية الدليمي

قناطر: بين خطابين قاتلين

طالب عبد العزيز سيكون العربُ متقدمين على كثير من شعوب الأرض بمعرفتهم، وإحاطتهم بما هم عليه، وما سيكونوا فيه في خطبة حكيمهم وخطيبهم الأكبر قس بن ساعدة الإيادي(حوالي 600 ميلادية، 23 سنة قبل الهجرة)...
طالب عبد العزيز

كيف يمكن انقاذ العراق من أزمته البيئية-المناخية الخانقة؟

خالد سليمان نحن لا زلنا في بداية فصل الصيف، انما "قهر الشمس الهابط"* يجبر السكان في الكثير من البلدان العربية، العراق ودول الخليج تحديداً، على البقاء بين جدران بيوتهم طوال النهار. في مدن مثل...
خالد سليمان
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram