TOP

جريدة المدى > عام > الانتلجنسيا العراقية.. عطالة الوظيفة.. هشاشة المواقف العضوية

الانتلجنسيا العراقية.. عطالة الوظيفة.. هشاشة المواقف العضوية

نشر في: 2 أغسطس, 2014: 09:01 م

يبدو ان وظيفة الانتلجنسيا العراقية والعربية باتت اقرب الى الفرجة، وان الحديث عن دور ومسؤولية(المثقف العضوي) المحشوة بالضجيج، صارت جزءا من لعبة الاستعراض الثقافي..فما يجري الآن يتطلب الكثير من المراجعة الثقافية، والكثير من الوعي والجرأة والتدبّر والتم

يبدو ان وظيفة الانتلجنسيا العراقية والعربية باتت اقرب الى الفرجة، وان الحديث عن دور ومسؤولية(المثقف العضوي) المحشوة بالضجيج، صارت جزءا من لعبة الاستعراض الثقافي..فما يجري الآن يتطلب الكثير من المراجعة الثقافية، والكثير من الوعي والجرأة والتدبّر والتمكين، لأنه يعني مواجهة اقسى الحروب توحشا ورعبا، والأكثـر إثارة من حكايات مثيولوجيا الموت والسحر التي نسمعها.. الأمة والدولة والانسان والجماعة يواجهون اخطر تهديد وجودي، تهديد يمس المعيشة والهوية والمعنى والنوع، وتحت يافطات شوفينية وعنصرية لاتتحملها وقائع الحياة المعاصرة، ولاتنتمي لخطابها، وبروز جماعات عنفية عصابية مسكونة بظلامية التاريخ ورهاباته المتوحشة..

الانتلجنسيا العراقية ضحية الدولة القديمة والاستبداد القديم ودوغما الايديولوجيات، تعاني اليوم من استبدادات اشد عنفا وتهميشا، ومن تغييب يعكس أزمة غياب المؤسسة، والرؤية والمنهج، اذ تعيش وظيفة الظل بنوع من الاستمناء الداخلي، واحيانا بنوع من المازوخية المرعبة، حتى بدا الأمر وكأن كل أسئلة الوعي التاريخي التي كان يثيرها المثقفون فقدت أهليتها وصلاحيتها، وانغمروا في نظرة تشاؤمية أفقدتهم اي إحساس بالتفاؤل، والنأي بالنفس عن اي نقد للتاريخ او للذات او للأفكار او للجماعات او للسلطة، وهذا النأي الذي يشبه الغياب تحول الى مايشبه الغطاء السميك العازل، حدّ الدفع باتجاه الوقوف عند عتبة الانسداد، وتعطيل اية ارادة للتغيير، والتعاطي مع المستقبل بوصفه اكثر الخيارات تعبيرا عن الوجود وتمظهراته العقلانية..

ان ادراك معنى التحول نحو هذه الخيارات يعني العمل على شرعنة ماهو صالح، وماهو واقعي وضروري، وحيازة الشروط الموضوعية والذاتية لتحديد ماذا يعني الوجود المعاش؟ وماذا تعني الدولة بوصفها المؤسسة الجامعة والعقلانية لهذا الوجود؟ مقابل مواجهة مجموعة من الأفكار العصابية الرافضة لمعنى الوجود والدولة، والنكوصية نحو استعادة سلطة الجماعة، والتي تعني افقاد كل التراكم المعرفي والانساني، وماحققته المدنية من انجازات كبرى على صعيد البناء المديني والديمقراطي، وعلى صعيد عقلنة البناء السياسي والاقتصادي والاجتماعي والحقوقي..
الاستئثار بسلطة الجماعة وقوتها العصابية تعني قمع القوى الاجتماعية الاخرى من المشاركة، ووضع العقل الثقافي والسياسي تحت سلطة الولاية الجماعاتية، اي تعطيل اية ارادة من ان تكون فعالة وقادرة على المواجهة، وعلى تبني الافكار التي من شأنها تعزيز النظرة الحقوقية للانسان والمجتمع وتعزيز منجزاتهما في عملية البناء الاجتماعي.. ان تعطيل هذا الوعي هو صلب اشكالية العطالة التي تعيشها الانتلجنسيا اليوم، وابتعادها عن تنظيم النشاطات الكبرى التي تعني باهمية الحفاظ على المنجزات العقلية، وبقيمة الثقافة كعنصر فاعل ومؤثر في عملية التغيير، ومواجهة الثقافات الضدية، اي ثقافات العنف والتكفير والغلو والاقصاء، لكن تبقى الوظيفة الفاعلة للانتجنسيا رهينة ايضا بوجود القوانين والمؤسسات والبرامج، وبالقوة الدافعة التي ينبغي ان يملكها المثقفون، لان عطالة هذه المؤسسات تعني النزوع الى المغامرات والأدوار الفردية، وهي بطبيعة الحال تفتقد لقوة التأثير والانتشار والمشاركة الواسعة في صناعة راي عام مؤثر على الجمهور.. 
مايجري اليوم من وقائع دامية في حياتنا يعكس غلو الثقافات الضدية، مقابل تعطيل واضح للثقافات النقدية وحتى الثورية، وبقطع النظر عن طبيعة ومرجعيات هذا التعطيل جراء تراكم سلطة الاستبداد والعنف والحروب، وسياسة النفي الثقافي الممنهجة، الاّ ان واقع الحال يتطلب ستراتيجيات اكثر تعبيرا عن رؤية الواقع، وعن مواجهة هذا الذي يجري، والذي تحول الى خطر يحدق بالجميع..
ثقافة الحياة..
ثقافة الدم
ان استشراء ثقافات الرعب الارهابية، تعني إباحة القتل، والإخصاء الفكري والعقائدي، مثلما تعني ممارسة نوع من سياسات التطهير العرقي، والذي يرقى الى جرائم الحرب حسب توصيف المنظمات الحقوقية الدولية، وهذا بطبيعة الحال يعبّر في جوهره عن وجود انهيارات اجتماعية واقتصادية وسياسية، مثلما يعبّر عن وجود هشاشة ثقافية، تلك التي تجسد نفسيا مجموعة من الممارسات المازوجية الراكزة في اللاوعي النكوصي، والتي تعبّر عن نفسها من خلال مظاهر التشظي المجتمعي وشيوع مظاهر الرعب الداخلي، حيث الاندفاع اللاواعي بالانخراط في سلوك وممارسة علنية في الكراهية، وصولا الى التعبير عن خذلان القيم الوطنية، والشرعية، اذ لايوجد تبرير للقتل، سوى الغلو في الحكم، والغلو في الكراهية، وهذا الغلو لايحمل اي جواز او وجوب في الحكم الشرعي ولا في الحكم الثقافي او الانساني..
من يفكر بالقتل على هذه الطريقة الجمعية، والعدمية، يعني انه يفكر في لاوعيه الجمعي بإخضاع الآخرين لمقاصده. ومن يجد تبريرا لإشاعة هذا القتل تحت شرعنة فقه المقاصد، فانه حتما يقع في شكوكية الحكم، وفي إباحة الدم دونما وجه عقلي او منطقي او حتى نصوصي..
الأخطر ما في هذا النزوع الدموي هو السكوت، او الصمت الثقافي، وغياب اي منظور نقدي لهذه الظاهرة الخطيرة، او حتى على مستوى تفعيل المؤسسات الثقافية والاكاديمية لإقامة الندوات والحوارات، فللأسف لانجد اي عمل حقيقي للانتلجنسيا المؤسسية ولا المدنية في إقامة الندوات الثقافية الواسعة في المراكز البحثية، ولا حتى إقامة الندوات مع المرجعيات الثقافية والقانونية والسياسية والاجتماعية والطبية والدينية لمناقشة خطورة استشراء هذه الظاهرة، وانعكاساتها على النساء والشباب والأطفال، وعلى التعايش المشترك بين المكونات المجتمعية، وعلى مستقبل البناء الوطني والبناء السسيونفسي للمواطن، ولتأثيرها الخطيرة على تفكيك الوحدة الوطنية الاجتماعية والنفسية، مقابل تشويه أية مرجعية قانونية لمفهوم الجريمة التي ترتكبها هذه الجماعات الارهابية، وتوصيفها الجنائي والشرعي والنفسي، وإبراز القصد العنصري منها، وطبيعة تنفيذها، فضلا عن إشاعة المزيد من الإحساس بالعدم، وتحويل الجماعات الى مكونات عصابية، او غيتوات خارجة عن قيم الدولة والقانون، وخاضعة لمرجعيات ماقبل الدولة..
ان شيوع الغلو في الحديث الطائفي، يعني تعطيلا لأي حوار إنساني بين المكونات، وتغافلا عن خطورة الهشاشة التي بدأت تسود الحياة العراقية، والإحساس بعطالة المعنى، وحتى الإحساس بقسوة الانتماء، لان الاكتفاء بتوصيف ظاهرة التفجيرات الجمعية وفي اماكن عامة، بانها ظاهرة أمنية، يعني تجريدها من توصيفها العميق، ومن تداعياتها النفسية والتربوية والحقوقية، ومن طبيعتها الإجرامية، ومن رعب ما تتركه من جروح قيمية، وانسانية، قد تؤدي في ظرف من الظروف الى ما يشبه الحرب الاهلية، حروب الهويات والعقائد والانتماءات، وهذا ما ينسجم مع اغراض بعض الأجندات السياسية، لكنها في العمق تعكس العطب الاجتماعي والانسداد الثقافي، وعطالة الحوار، والخروج من فكرة الدولة الى فكرة الجماعة، ومن العقيدة الى العصاب، لاسيما وان الدين الاسلامي يتجوهر حول الخطاب الاخلاقي، وحول قيم الرسالة الاخلاقية انطلاقا من حديث الرسول الأكرم (جئت لأتمم مكارم الأخلاق)وبالتالي فان الخروج عن القاعدة الاخلاقية للدين، يعني المروق، والوقوع في مأزق الخروج عن فكرة الأمة، تلك التي اقترنت قوتها بقوة الدولة الاسلامية طوال قرون، والتي تعايشت تحت حكمها وفقها وعلمها جماعات وأقوام وملل، اختلفت في اللهجات وفي الانتماء القبلي لكنها توحدت عند شرعنة الحق والعدل والمساواة والرحمة..
مايحدث اليوم يحتاج الى وعي ثقافي نقدي، والى تحفيز حقيقي لوظيفة الانتلجنسيا العراقية باتجاه اصطناع القوة العميقة والواعية للفعالية العضوية للمثقف وللمؤسسة، وللجماعة الثقافية، ليس لمواجهة تداعيات الرعب الدموي حسب، وانما لمواجهة وجوه الإرهاب الاخرى، مثل الفساد وسوء الإدارة، وهشاشة البناء المؤسساتي، وعطالة البرامج والمشاريع الصيانية للدولة، والنظام الحقوقي والاطار المدني للمجتمع، وغياب الرؤى الستراتيجية للمستقبل ولخلق الحواضن المجتمعية المتفاعلة حول قيم التعايش والتعدد والمواطنة والعدل المجتمعي لمجتمع ينتمي الى زمن حضاري معقد.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram