يثير عنوان رواية" مستعمرة المياه" ملاحظة تمتد نحو طبقات السرد الداخلي ،واعني به المجاز البلاغي الذي انطوى عليه العنوان "مستعمرة المياه" . وكثيرا ما هيمن المجاز على السرد ، بما في ذلك المجاز الثقافي ،وكان القاص يمارس عملية ترحيل من النقد التداولي الثق
يثير عنوان رواية" مستعمرة المياه" ملاحظة تمتد نحو طبقات السرد الداخلي ،واعني به المجاز البلاغي الذي انطوى عليه العنوان "مستعمرة المياه" . وكثيرا ما هيمن المجاز على السرد ، بما في ذلك المجاز الثقافي ،وكان القاص يمارس عملية ترحيل من النقد التداولي الثقافي إلى السرد وسيادة المجاز في السرد والتنويع فيه ، ما أضفى على الرواية خصائص ،دفعت بالسرد من تعدديته إلى شعريته وحيازته على صفة المعتق وكأننا نقرأ نصا أو مدونة قديمة ،ومثلما عرفته المخطوطات أو المدونات الما قبل. و- القاص- يطوّر ممارسات تقنية، لجأ اليها قبله عدد من القصاصين العرب ،ولعل جمال الغيطاني أكثـرهم حضورا، وخصوصا في (الزيني بركات) و(وقائع حارة الزعفراني) ويبدو لي إن القاص جاسم عاصي أكثـر ميلا نحو السرد المعتق في هذه الرواية فقط . واعتقد بأنه الآخر بعد القاص جهاد مجيد ظل محكوما بالتاريخ أو السعي للتماهي معه والإيحاء بالاقتراب إليه ،حتى يوهم بان النص هو إعادة صوغ لوقائع تاريخية وأحداث وقعت، اكتشف فيها القاص جهاد تناظرا مع الواقع وأسطورته وغرائبية العلاقة بين المواطن ونماذج السلطة السائدة .
لكن الوقائع التي تضمنتها (دومة الجندل) هي نتاج للمخيال وتطويراً له . أما تجربة القاص جاسم عاصي في روايته " مستعمرة المياه " فهي تجربة استعانت بالسرد المعتق والحكي الذي الفته المدونات العربية القديمة وهذا النوع من السرد ينفتح أمام الشعرية وحصرا المجاز . وقد اعتنى القاص كثيرا بمجازية المكان الثقافية كما في الشويعرية ، القرية ذات المركز السردي الذي التمت حوله طاقات السرد الغرائبية كي يضفي على الشويعرية غرائبية ولا معقولية ،مثلما جعل منها بؤرة الحلم والاستشراف الصوفي والأسطوري ، كما كانت في الواقع السياسي مركزا لفعل المقاومة وأعمال الكفاح المسلح ، الشويعرية ذات الوجه المنطفئ مثل غيرها من القرى المنتشرة على حافات الأهوار ذات الجدران التي تراقصت فيها أعواد البردي كيما تزيد من متانتها ومنعتها وجبروتها المتمثلة بهذا العناق الدائم للفضاء (صـــ14) . القرى المماثلة للشويعرية هي التي أشعلت النار ، ويلاحظ التضاد الدلالي الذي صاغه السرد، نار مشتعلة وسط أماكن مائية ...وهنا المجاز وأيضا الثقافي ، فالثورة والسطوح المائية دلالة على الضدية في الثنائيات، إلا أنها ضدية ايجابية، لكن الذي تغير هو الثورة في نفوسنا ، والنار المستعرة كالموقد ، والتي تفوق حدّة الوهج الضارب الى كل الأرجاء . ويحقق السرد تطوره اللافت ويتشظى ويتماهى المعتق مع الموروث والمرويات ، ويكون التوحد والتلاقي ويفوز المكان الغرائبي بإنتاجه للأسطورة والقيم المائية ،ذات الجذور الأولى الممتدة عميقا في الذاكرة والحاضنة لمخيال ممتد منذ الاف السنين ولا يفقد المكان توهجه ، بل يتضاعف ويحوز على اللا معقول بوصفه معقولا ومتداولا في الحياة اليومية والثقافة الشعبية . ويتحول الهور مصدرا للحلم والانتظار ، انه حلم التوقع / والترقب وشفرة الآتي والمستقبلي ، لدرجة إن الحلم ظل حلما حتى بعد الوصول إلى كوت حفيظ وهذا الارتقاء الروحي والمادي في آن هو الذي جعل من أفعال المكاصيص حضارية وثقافية وتتمركز في ذاكرة الأجيال ، ويتبادلها أبناء المكاصيص موروثة وكأنها من خاصياتها الروحية والمادية . لذا انتقل الحلم من الجد إلى الأب وبالتالي إلى الابن وحقق هذا الارتحال توارثا إلزاميا وكأنه بعض من وقائعهم وأحلامهم في آن . وأضفى على الارتحال حركة على الحياة ، حاضرها ومستقبلها ، ومن غير تجاهل للماضي ، بوصفه ذاكرة صانت تاريخ الأهوار وأساطيرها ومروياتها ، المنتقلة جيلا بعد جيل، حتى العلامات المميزة للعوائل والأبناء ، تلك العلامات موروثة هي الأخرى وانفرد بها المكاصيص عبر تاريخهم الطويل " وضعت عصاها على الأرض ، ثم رفعت يدها ولامست بكفها كتفه ،ضاغطة عليه ، لمست الآخر ونزعت القميص متجهة نحو الكتف الأيمن ، حتى بان متكورا ابيض كالحليب، تسللت كفها إلى سطح ظهره ،وراحت تتلمسه وتمسده ..... وحين سحبتها على عجالة احتضنته وأخذت تبكي وتنشج ، لكنه بدا قولا حاسما :
-اقترب مني أكثر يا ولدي ، والله من صلب المكاصيص كما قلت "صـ88 .
وفي علاقة السرد مع الموروث تنحرف دلالة بعض الشخوص كالجد والجدة، الأب ،الأم، وتنطوي على فضاء رمزي متعدد ومتنوع ، حتى يكاد الجد/الأم يندغمان معا ويصير الواحد منهما مركز للمرويات والموروثات . ومن هنا يتمثل القاص هذه الثنائية وبقوة ويوحد بين الماضي / الجد / الجدة وبين الموروث / السرد المعتق والذي اقترب كثيرا من سرود الإخبار ، وشاع في الرواية الغرائبي وهيمن على السرد ،وذلك بسبب حركية المخيال وطاقته على التوليد الأسطوري إلى درجة توحد كل شيء بما فيها الحكايات مع الأساطير وصارت تلك الغرائبية ملمحا لحياة الناس في مستعمرة المياه . والمياه لعبت دور بارزا في تشكيل الوعي وبلورته ، مثلما هي اللحظة المولدة للسرود ذات الطاقة الخارقة والمساهمة في رسم وتأطير هوية المكان هنالك ، هويتهم الثقافية والروحية و المكاصيص مثل سمك ماء الهور وحيواناته لا يطيب لهم غير التمرغ في رغوته، وشم رائحة فواحة ، لقد تداخلت فيك الأزمنة يا مردان، وولدت مرات ومرات ، ما إن تخرج من محنة حتى تدخل منها على غير هيئتك ، فمن ذا الذي سيخرجك من محنتك هذه الآن ...؟ صـــ90
ظل الحلم مركزا في كل المرويات ومهيمنا على الذاكرة وهو الذي ينتج الأسطورة والسرود ويبلور الأطر الثقافية لها . انه تاريخ ثقافي / انثروبولوجي ، يحصل فيه تداخل غريب بين الواقعي والأسطوري ، الحلمي والغرائبي ، التاريخي الحقيقي والاخر المنتج مخياليا ، لأننا نستطيع إلغاء التاريخ المولد عبر المخيال لأنه بعض من تاريخ حقيقي وهوية ولم يعد بالإمكان تأشير العزل بينهما أو الفرز ، لان التاريخي الوقائعي والآخر المخيالي خضعا معا إلى التحبيك الثقافي والسردي ، وتميز التحبيك بقدرة على وصف الصراع التاريخي كما في فرق الكفاح المسلح في الشويعرية والصراع الحياتي / اليومي كما في قصص وأساطير المكاصيص .
ولا نستطيع إلغاء دور الثقافة الشعبية بالمفهوم النقدي الجديد . المفهوم القريب إلى مجال الانثربو لوجيا ، لان الرواية ممسكة بعناصر انثربولوجية متوارثة عبر تاريخ طويل جدا . ولذا بالإمكان رصد الكثير من العقائد /والطقوس التي تحولت إلى ثقافة يومية بعدما كانت جزء من حياة تخيلية .
لقد نجح القاص جاسم عاصي في رسم شخوصه ، بوصفهم ذاكرت متناظرة عبر علاقتها مع الماء وثقافته . شخوص بسيطة ، غادرت بساطتها عبر تلزمن وصارت شخوصا ثقافية . الحلم هو الذي جعل العلاقة الاجتماعية ممتدة من الجد وحتى لحظة الحفيد الحائز على مراكز التاريخ العائلي ، لأنه استطاع التحاور مع الجدة وإقناعها بامتداده الأسري وهذا يعني بان الحلم ينطوي على قدرة التحرك والتشظي باستمرار ، الحلم باق ولولاه لمات الإنسان ، والحلم أمل وهو آخر من ينطفئ ، لذا ظلت الرواية محكومة بديمومة الحلم والاستشراف وبوصفه إرثا اجتماعيا ، قابلا للانتقال والتداول ، والإبقاء على ملامح الصراع والتحدي لأنه- الصراع- العلاقة السردية التي ميّزت المكاصيص عن غيرهم ولم يترك لهم غير بقايا عظام وجماجم عند توهجات كوت حفيظ "... وكلما تقدمت أكثر دنوت من نواة الوهج .وصفا كل شيء . حتى غشيت عيناي داهمتهما ، أنطفا الأبصار . رحت أتلمس طريقي بكفي فلا امسك إلا بأجساد صلبة ، ساخنة ، وبقايا هياكل عظمية وجماجم " صــ29
لقد التزم المكاصيص بموقف ثابت وصارم في تعاملهم مع الإرث الحكائي / المتمثّل بالمرويات والأساطير ، وتبدت علاقتهم عن قداسة غير متناسبة ، وهذا ما يمكن ملاحظته في الوصايا التي أعلنها الأب وظلت متداولة ، بوصفها إرثا لا يمكن التفريط به ،أو التقليل من شانه وحيويته المقدسة ، التي أضفى عليها الزمن مسحة المقدس
- مردان عاد
- كان محملا بالوصايا
- فضّ وصاياه أمامنا ، بل فتح كتابه لنا
ـ أنها كثيرة . وكتابه مفتوح للجميع.
ـ وحكمتها ماذا قالت ؟
ـ أن كوت حفيظ حوت كبير ، يلتهمنا واحداً إثر الآخر ، وفمه يتسع للجميع ، هذا ما قاله أبي /// ص134
ويستدعي القاص جاسم عاصي الأطر الدلالية للمرويات / الشفاهيات بوصفها تاريخا وذاكرة ، إنها تراث المكاصيص وذخيرتهم الحياتية وخلاصة تجاربهم هم والآخرين ، وكتاب مردان المفتوح للجميع هو ذاكرة الشويعرية وتاريخهم وعلاقاتهم ووقائعهم ، وخساراتهم وسط المستعمرة وهي كثيرة ومتكررة وكوت حفيط مجهول ومعلوم ، أسطورة وحقيقة ، معقوليته متبدّية في سرديات الناس عنه وغرائبيته كامنة في التراث الخاص بأساطيره ، وهذا كله ، هو كوت حفيط وكتابه التاريخي الذي استلمه الابن مردان والأب في الآن ذاته . وأراد القاص أن يضع تناظرا بين الأم الأولى وولدها وبالمقابل بين الأب الذي هو الابن الأول وبين سامح الابن الثاني في سردية المكاصيص ، سامح الذي امتد حفيداً للجدة ، وراويا لها وناقلاً للشويعرية تفاصيل تطورية مردان الذي أملته اسطورة كوت حفيظ نفسياً ولحظة عودته الى أهله لم يعرفه أحد ، حتى والدته وحصول قطيعة اجتما ـ ثقافية بين الأم الحقيقية والرمزية وبين ولدها قادت الى تشظي وضياع وفقدان . لكن سرديات المجتمع الخيالي / الأسطوري ظلت محفوظة ، سرديات هي قلب الذاكرة وروح التراث ، حيث أعتبر ادورد سعيد التراث دهمائيا وجوهرائياً وينطبق هذا الرأي تماما على سكان الشويعرية والعائلة الصغيرة حصراً . وظل كتاب مردان مفتوحاً للآخرين وهو ملكيتهم .
أن كوت حفيظ حقيقة ، هو نور قد رآه بأم عينيه . . . ولهذا حكايات طويلة أوصاني أن أوصلها إليكم لتكونوا على بينة من أمركم وأمر كوت حفيظ الذي أنا وريثه من بعده /// ص 86 .
ذج التناص وسرديات الهوية.
جميع التعليقات 1
صالح الرزوق
وقائع حارة الزعفراني رواية ساخرة تعيد قراءة الضغط الاجتماعي العام على الذات. انها لا تسير خلف اساليب المدونات و لكن نعم الزيني بركات ثم شطح المدينة و أوراق شاب عاش قبل الف عام و سواها تحاكي المنسوخات و لغة الدواوين. للغيطاني مشروع متكامل قل مثله في مغازلة