TOP

جريدة المدى > عام > في استعادة منير بشير: يعزف في الروح عميقاً

في استعادة منير بشير: يعزف في الروح عميقاً

نشر في: 29 سبتمبر, 2014: 09:01 م

في الثامن والعشرين من أيلول 1997، نعت أوساط موسيقية عربية ودولية بارزة ، الفنان الكبير منير بشير، الأمين العام لـ"المجمع العربي للموسيقى"، والشخصية العراقية والعربية الفنية الرفيعة التي ما إن تذكر، حتى تذكر معها آلة العود وانغامها.هنا سنشعل للراحل ال

في الثامن والعشرين من أيلول 1997، نعت أوساط موسيقية عربية ودولية بارزة ، الفنان الكبير منير بشير، الأمين العام لـ"المجمع العربي للموسيقى"، والشخصية العراقية والعربية الفنية الرفيعة التي ما إن تذكر، حتى تذكر معها آلة العود وانغامها.
هنا سنشعل للراحل الكبير شمعة من "المدى"، باستذكار سيرته الفنية من علامات تؤكد ان لمنير بشير، سحرا، جعل آلة العود توطّد مجالها النغمي وتوجز روحية الموسيقى العربية.

الموصل: نقطة البداية
شهدت مدينة الموصل، في أواخر العقد الثاني من القرن المنصرم، ولادة موسيقيَّين سيكون لهما شأن في الموسيقى العراقية والعربية وهما: جميل ومنير بشير، لأب نجّار وموسيقي وصانع أعواد ماهر.
وفي الخامسة من العمر عندما كان يجلس يستمع بخشوع، الى أبيه وهو يحتضن عوده ويغني، كان البيت هادئا تماما والانغام ترتفع وتنخفض، تهمس وتصرخ، تناجي وتتعذب، بينما هو يتمزق شوقا، وكان اخوه جميل يعزف على الكمان، ولكنه كان يحتفظ به في موضع أمين بعيدا عن يدي منير الصغير، ولم يكن أمامه سوى عود أبيه. وعن هذا المشهد يقول منير بشير: "انتهزت فرصة غياب والدي عن البيت، وحاولت ان احرك العود المعلق عن موضعه، وضعت الوسائد ولكنني لم أوفق في الوصول اليه، شاهدتني والدتي، حذّرتني، هددتني بما يمكن ان أتعرض له لو عرف والدي بالأمر، ووعدت ان تكتم ما رأت، شعرت بالخوف الشديد، لكن رغبتي الجامحة قادتني مره اخرى اليه بحذر شديد ونجحت في تناوله من مكانه المرتفع، لامست أوتاره، حدقت فيه، وتكررت العملية، ويوما بعد يوم كانت أصابعي تكتسب مرونة، وتتعمق الألفة بين هذه الأصابع والأوتار".

بغداد: الدراسة واكتشاف الذات والعالم
التحق منير بشير في سن مبكرة بمعهد الفنون الجميلة في بغداد ودرس الموسيقى وتتلمذ على يد المعلم الفذ الشريف محيي الدين حيدر، الذي درسه العزف على آلتي العود و (التيشللو) واثر فيه فنيا وثقافيا وتربويا.
في المكان ذاته كان اخوه جميل يوطّد خطواته، ليصبح أحد أعمدة التحديث في الموسيقى والغناء بالعراق، غير ان رحيله المفاجئ في السبعينات جعل الموسيقى العراقية والعربية تخسر قدراته النابهة والخلاقة كعازف على العود، ومؤلف في أشكال موسيقية عدة.
ومن معهد الفنون الجميلة الى دار الإذاعة العراقية، حيث عمل منير بشير عازفا في الفرقة الموسيقية للإذاعة ثم مخرجا، وبعد الإذاعة وصل للتلفزيون العراقي الذي كان اول تلفزيونات الشرق الأوسط (افتتح عام 1956)، وعمل مخرجا للبرامج الموسيقية والغنائية.
ومن بغداد انتقل لإكمال دراساته الموسيقية العليا في أكاديمية (فرانز ليست) في بودابست، وحصل على الدكتوراه من قسم الفنون التراثية والشعبية بأكاديمية العلوم وبإشراف المؤلف الهنغاري الكبير سلطان كوادي الذي نصحه بان يظل في قلب جذوره الموسيقية ويعود الى منطقته، فوصل بشير الى بيروت حيث أقام بين 1966 و 1973 وتعاون مع موسيقييها وفنانيها: "احتضنتني بيروت في الأيام الصعبة، وفيها صدرت اسطوانتي الاولى مطلع الستينات، ومنها حققت انطلاقتي العالمية" وفيها اكتشفه سيمون جورجي، وهو عالم سويسري من ابرز المختصين في الموسيقى الشرقية، فدعاه للعزف في جامعة جنيف حيث سجلت لدى احدى حفلاته في العام 1967، وصدرت اسطوانة اعتبرت الخطوة الفعلية الاولى الى الشهرة والتكريس.
وفي عودته الى بغداد بدا منير بشير سعيه لنقل كل ما آمن به، وقد تجسد في مؤسسات موسيقية فنية وتربوية عبر إدارته للنشاط الموسيقي العراقي: دائرة الفنون الموسيقية في وزارة الثقافة والإعلام.
وندر الحضور الفني والإبداعي في ثمانينات العراق، حين اشتعلت الحرب مع ايران، لتتصاعد الأناشيد اللاهبة للحماس والانفعال وتخفت الموسيقى الرفيعة ومحمولاتها الانسانية، وتعمق ذلك الانسحاب مع حرب الخليج الثانية عام 1991، ويغادر منير بغداد بعد ذلك، مع مئات المثقفين والفنانين والكتاب العراقيين ويتخذ من عمان مقرا جديدا لتفعيل عمل المجمع العربي للموسيقى (جامعة الدول العربي) الذي أداره بشير منذ تأسيسه عام 1974.

عمّان: عود منير يعزف في الروح عميقاً
قبيل رحيله بشهور، احيى الفنان منير بشير أمسية موسيقية في المركز الثقافي الملكي، وتضمن البرنامج خمس مقطوعات تميزت بأصالة مرجعياتها الموسيقية واللحنية كذلك في أسلوب العزف المتقن. فقد عزف منير بشير مقطوعة "جولة مع العود" التي حفلت بتنويع مقامي كما انها أظهرت طريقة عزف بشير القائمة على مزاجية موفقة بين التقنية العالية والروحية التي تأخذ السامع الى جوانب فنية عميقة في النفس، لتتضح وتتحاور معها وترق جوانبها. وتلك الروحية تنبع من أجواء اللجنة العراقية الراقية حيث تراث الأمكنة ورحابتها القديمة.
اليد الخبيرة التي تتصل بروحية صافية تلعب على غناء خفي ما يلبث ان تتصل معه ذائقة المستمع، يخفت كأنه الهمس لكنك تسمعه، ويتعالى متصاعدا بأكثر من لحن.
مهارات العزف عند منير بشير تنسجم مع التصوير في تأليف القطعة ومعا ينتجان (العزف والتصوير) طاقة في التعبير، تعجب كيف لهذه الالة (العود) ان تختزنها؟ فهناك (تجريدات) على ملامح الشجن والندم والحنين، ثمة البوح الجميل وثمة الفرح الطليق ايضا.
واذا كان التنويع المقامي والارتجال ميزة عند فن منير بشير، فهو في مقطوعة "جولة مع العود" قدم درسا في هذا الشأن، يظل قادرا على التأثير مع كل مرة تسمع فيها المقطوعة وأنامل بشير تبدعها.
في عمّان التي احتضنت بشير وعائلته، قدّم ابنه عمر، اكثر من أمسية موسيقية اظهر انه في عزفه على العود ورث من عمه جميل الروحية الخلاقة، وأخذ من والده منير، تقنيات بارعة ليس من السهل تكرارها.
وبرحيله في مثل هذه الأيام في العام 1997، فقدت الموسيقى العربية المعاصرة، وتحديدا في مجال قوالبها وأشكالها الأصيلة، احد ابرز اسمائها، عازف العود والمؤلف منير بشير عن 67 عاما، تاركا إرثا فذا لا في أساليب العزف على الالة الشرقية والعربية الأشهر، بل في مؤلفات تنهل من نبع النغم العربي والشرقي، برحابة أثيرية، عمادها الاتصال مع الاخر الغربي عبر حوار طويل مع انغامه وموسيقييه.

غياب الموسيقى وتجليات أنغامه
وفي مساء 28/9/1997 وتحديدا في ملاذه الهنغاري ( حيث درس وتزوج وانشأ أسطورة موسيقية شخصية)، فقدت الثقافة العراقية احد رموزها، فالراحل منير بشير كان سفيراً من طراز رفيع لإنجازات تلك الثقافة ومؤشرات حضورها. وبفقده ايضا خسرت الموسيقى العربية الأصيلة احد أعلامها في وقت عسير تمر به حيث تتعرض لتهديد جدي من قبل اتجاهات هجينة تشيع أمية نغمية واسعة وذائفة متدنية بامتياز.
الراحل بشير عمل بدأب وجهد من اجل الإبقاء على جذوة الموسيقي العربية، من خلال عمله أمينا عاما لـ"لمجمع العربي للموسيقى" التابع لجامعة الدول العربية، وحوّل تظاهرات المجمع من مناسبات بروتوكولية الى أحداث فنية بارزة فضلا عن ندواته النقاشية. وفي حين ينطبق هذا المنحى في عمله الاكاديمي والرسمي على المؤسسة الموسيقية العربية، فانه ينطبق ايضا على حضوره وعلى امتداد عقدين في عمل عزز مكانة الموسيقى العربية وحضورها في منظمة "يونسكو"، التي لم تكن قد عرفت قبل بشير اتصالا واسعا مع حقل ثقافي اسمه: الموسيقى العربية.
كان صاحب الأصابع الحاذقة الذي يختزن طاقة تعبيرية كعازف بارع على العود، بتلوينات من رشاقة أنامله وطريقة ضربها الموجزة على الأوتار، وعنده لا استعراضات ولا مبالغة فيما يدعي بالتكنيك في العزف، وصار علامة في فن المقام والارتجال، والمقامات كما يؤديها منير بشير تأملية تنزع الى التصوف والزهد وتعكس فكرة وفلسفته وهما ينبعان من عمق وعيه للتراث الروحي العربي، الموسيقي والغنائي بخاصة، وهو بارع في تطويع البنية النموذجية للمقام وخلق أجواء مشحونة بالعواطف يحس بها المستمع اليه عربياً كان ام غير عربي.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

يحدث الآن

جلسة "القوانين الجدلية" تحت مطرقة الاتحادية.. نواب "غاضبون": لم يكن هناك تصويت!

القانونية النيابية تكشف عن الفئات غير مشمولة بتعديل قانون العفو العام

نيمار يطلب الرحيل عن الهلال السعودي

إنهاء تكليف رئيس هيئة الكمارك (وثيقة)

الخنجر: سنعيد نازحي جرف الصخر والعوجة

ملحق معرض العراق للكتاب

الأكثر قراءة

موسيقى الاحد: 14 رسالة عن الموسيقى العربية

تصورات مغلوطة في علم السرد غير الطبيعي

حينَ تَشْتَبِكُ الأقاويلُ

رواء الجصاني: مركز الجواهري في براغ تأسس بفضل الكثير من محبي الشاعر

ملعون دوستويفسكي.. رواية مغمورة في الواقع الأفغاني

مقالات ذات صلة

علم القصة - الذكاء السردي
عام

علم القصة - الذكاء السردي

آنغوس فليتشرترجمة: لطفيّة الدليميالقسم الثاني (الأخير)منطق الفلاسفةظهر الفلاسفة منذ أكثر من خمسة آلاف عام في كلّ أنحاء العالم. ظهروا في سومر الرافدينية، وخلال حكم السلالة الخامسة في مصر الفرعونية، وفي بلاد الهند إبان العصر...
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram