ما لا ينبغي نسيانه بشأن موديانو: رؤيةٌ من الضفة الفرانكوفونية هدأت النفوس القلقة و أُقفل باب التوقّعات - الّتي تذكّرُنا بمراهنات سباق الخيول – مع إعلان الأكاديميّة السويدية فوز الروائيّ الفرنسيّ باتريك موديانو Patrick Modiano بجائزة نو
ما لا ينبغي نسيانه بشأن موديانو: رؤيةٌ من الضفة الفرانكوفونية
هدأت النفوس القلقة و أُقفل باب التوقّعات - الّتي تذكّرُنا بمراهنات سباق الخيول – مع إعلان الأكاديميّة السويدية فوز الروائيّ الفرنسيّ باتريك موديانو Patrick Modiano بجائزة نوبل للآداب 2014 . و كالعادة أثار هذا الاختيار من جانب الأكاديمية السويدية قبولاً لدى طرفٍ و امتعاضاً لدى أطراف أخرى على العكس ممّا يحصل في العادة مع الترشيحات في الفروع الأخرى ، و بعيداً عن الحديث المطروق من أنّ ثمّة عناصر كثيرة - غير عنصرَي المنجز و الموهبة – تلعب أدواراً حاسمة في خيارات الأكاديميّة السويدية فإن الفكرة الأساسيّة الّتي نريد توكيدها هنا أنّ الفوز بجائزة نوبل بات أداةً من الأدوات الناعمة المستخدمة لتدعيم التفوّق الثقافي الّذي يخدم في خاتمة المطاف التفوّق الستراتيجيّ للدول و يعمل جنباً إلى جنب مع وسائلها الصلبة في تثبيت دعائم هذا التفوّق الشامل بعيداً عن كلّ الادّعاءات بالعولمة الثقافية ذات الوجه الإنسانيّ و الّتي استحالت بدورها مقولة أيديولوجيّة لا تختلف كثيراً عن مقولات اليسار و اليمين الّتي عهدناها من قبلُ.
ومن المؤكّد أنّ العناصر الصراعيّة الثقافيّة - و إن كانت خفيّة أو متقنّعة في أحسن الأحوال – هي بين الفضاءين : الأنكلوسكسوني و الفرانكوفوني ، و تقلّ حدّة الصراع الثقافيّ كثيراً متى ما دخلنا عتبة الفضاء الجرماني ، ثم تتلاشى تقريباً في الفضاءات الأميركيّة اللاتينيّة و الأفريقيّة و الآسيويّة الّتي لا تقبع – في معظم البلدان المنضوية ضمن هذه الفضاءات - تحت عبء تأريخها الكولونيالي و حاضرها التكنولوجيّ الّذي يفرض عليها سياقات ثقافيّة صراعيّة - مع ملاحظة خصوصيّة التجربتين اليابانية و الصينيّة - و استناداً إلى هذه الرؤية يمكننا أن نقدّر مدى الحفاوة الّتي قابلت بها الصحافة الفرانكوفونيّة فوز موديانو و إشادتها به و رفعه إلى مصاف بطلٍ قوميٍّ على الرغم من أنّ الرجل يعرف عنه سلوكه المتحفّظ و خجله البيّن و انزواؤه عن الأضواء و ابتعاده عن أيّة نزعات وطنيّة فرانكوفونيّة ضيّقة و نزوعه إلى حياة الهدوء و التناغم مع عالمه الداخليّ و هو ما توحي به أعماله التي تتمحور على موضوعات : الذاكرة و النسيان و الهويّة و الذنب ، كما تعدّ باريس إحدى العناصر القصصيّة المهمّة في أعماله إلى حدّ رأى فيها النقّاد شريكاً إبداعيّاً في أعمال موديانو الّتي تتأسّس في مجملها على قاعدة سيريّة ذاتيّة واضحة .
سيكتبُ الكثير في الأيّام القادمة عن موديانو و سيترجَم الكثير من أعماله إلى شتّى لغات العالم و ستدور عجلات المطابع لطبع أعماله المترجمة و تلك تجارة و صناعة ضخمةٌ تعتاش على ما تجود به الجائزة النوبليّة من أسماء أدبيّة ، و سيشغل موديانو فضاء الإعلام الحقيقي و الافتراضي في بضعة الشهور القادمة كما هي العادة مع كلّ إعلان لجائزة نوبل الأدبيّة ، و لكن كيف استقبل العالم الفرانكوفوني في الجهة المقابلة للفضاء الأنكلوسكسوني فوز موديانو بنوبل للآداب هذا العام ؟ . بعد معاينة مستفيضة للمواقع الإلكترونيّة الفرنسيّة الناطقة بالإنكليزيّة رأيت أن أترجم نصّاً ظهر في موقع( The Local : France”s News in English ) الإلكترونيّ تحت عنوان ( عشرة أشياء ينبغي لك أن تعرفها عن موديانو ) بعد ساعات قليلة من إعلان خبر فوزه بجائزة نوبل ، و يمكن للقرّاء الكرام أن يلحظوا أنّني تجنّبت المواد ذات الطبيعة الإخباريّة المباشرة و فضّلت عليها نصّاً يلقي أضواءً كاشفة على جوانب من شخصيّة موديانو و عالمه الأدبي و بخاصّة أن قليلين منّا كانوا سمعوا به قبل فوزه بالجائزة بسبب ندرة ترجمات أعماله إلى العربيّة.
لطفيّة الدليمي
مُنِحت جائزة نوبل في الآداب لعام 2014 إلى الكاتب الفرنسيّ باتريك موديانو ، و كان مُتوقّعاً أن يكون التساؤل الأوّل الّذي راود الكثيرين في شتّى أصقاع الأرض : " من عساهُ يكون باتريك مونديانو هذا ؟ !! " . دعونا نذكّر هنا بعشرة أمورٍ ينبغي معرفتها بشأن هذا الكاتب الّذي انضمّ إلى قافلة الروائيين النوبليّين يوم الخميس 9 تشرين أوّل 2014 :
* شخصيّة محتفى بها في فرنسا:
قد لا يكون موديانو معروفاً على نطاقٍ واسع في العالم الناطق بالإنكليزيّة لكنّه ذائع الصيت في فرنسا حيث يعتبر أحد أكثر الكتّاب المحتفى بهم هناك . كانت لحظة تتويج موديانو الأولى- الّتي عبّدت طريقه باتّجاه نوبل لاحقاً - مع حصوله عام 1978 على جائزة الغونكور الأدبيّة المرموقة عن عمله المسمّى ( شخص مفقود Missing Person ) ، كما فاز بجائزة الأدب الوطنيّ الكبرى عام 1996 و بالجائزة الكبرى للأكاديميّة الفرنسيّة عن روايته ( طُرُقاتٌ دائريّة Ring Roads ) .)
* الاحتلال النازيّ هو المُحفّز الأساس لأعماله:
موديانو ، البالغ 69 عاماً ، و المولود مع خاتمة الحرب العالميّة الثانية عام 1945 لا ينفكّ يؤكد أنّ الاحتلال النازيّ لبلاده كان " التربة الّتي نشأ فيها و تغّذّى على عناصرها " ، و في معرض تقريضها لأعماله الّتي منح عنها جائزة نوبل قالت الأكاديميّة السويديّة أنّها " أرادت أن تحتفي بفنّ الذاكرة الّذي يميّز أعمال موديانو و يدفعه لاقتناص حيوات أناسٍ عاديّين و الحكي عنها في حقبة الاحتلال النازيّ الذي دام منذ 1940 حتّى 1944 " . إنّ إحياء موديانو للعوالم الباريسيّة خلال الحرب العالميّة الثانية - أثناء حقبة الاحتلال النازيّ - وانغماسه الرقيق في أصغر التفاصيل و أكثرها دقّة : أسماء على قصاصات ورق ، كافيهات ، محطّات المترو و الحوادث الحقيقيّة بكلّ تفاصيلها الصغيرة ،،، كلّ هذا منحه الأهليّة الكاملة للفوز بلقب ( المُنقّب الأمهر في الحفريّات الأدبيّة ) .
* ليس روائيّاً حسب:
تجتمع لدى موديانو الكثير من المواهب و الإمكانيّات و ليست صفته الروائيّة سوى إحداها حسب . أسهم موديانو في كتابة سيناريو الفلم السينمائيّ ( Lacombe Lucien ) الذي أخرجه المخرج الفرنسيّ " لوي مال Louis Malle " عام 1974 مستنداً إلى تجاربه الشخصيّة ، و يحكي الفلم عن تعاون بعض الفرنسيّين مع قوّات الاحتلال النازيّ . كتب موديانو أيضاً العديد من الكتب للأطفال كما ذكّرتنا صحيفة الغارديان البريطانيّة أنّ قواعد بيانات الأفلام العالميّة تقول أنّ موديانو ليس كاتب سيناريو سينمائيّ و تلفزيونيّ فحسب بل ممثّلٌ أيضاً !! فقد ظهر مع النجمة الفرنسيّة كاترين دونوف عام 1997 في فلم المخرج راؤول رويز ( جينيالوجيات جريمة Genealogies of a Crime ) و لعب فيه دور شخصيّة تدعى ( بوب Bob .)
* مصطلح فرنسيّ صار
ينسَبُ إليه:
لطالما صرّح موديانو بافتتانه وولعه بكلّ ماهو غامض ، و كتب يقول في عمله السيري الذاتيّ ( شجرة العائلة Pedigre )عام 2005 : " كلّما صارت الأشياء أكثر غرابةً و غموضاً ، باتت أكثر قدرة على إمتاعي إلى الحدّ الّذي أحاول فيه إضفاء سمةٍ من الغموض على كلّ ما لا يمتلك شيئاً منه " ، وصار من المتعارف عليه اليوم أنّ مصطلح ( موديانوي Modianesque ) ) بات مفردة فرنسيّة خالصةً تشير إلى كلّ موقفٍ أو شخصيّة تتّسم بقدر من الغموض و الغرابة .
* شخصيّة خجولة لا تحبّ الأضواء:
يعرف عن موديانو الّذي يسكن باريس الصاخبة تهرّبه من الإعلام و قلّما يمكن العثور على حوارات صحفيّة له . كتب أحد محرّري ( فرنسا اليوم France Today ) بعد أن حصل و التقى موديانو : " لن تلتقي بشخصٍ مثل موديانو في واحدة من حفلات الكوكتيل الباريسيّة التي يعشقها محرّرو الصحف ، أو في البرامج الحواريّة العامّة . حوارات موديانو قليلة للغاية و لكنّ كلماته ثمينة إلى أبعد الحدود " . وصف أحد النقّاد موديانو مرّة بأنّه شخصيّة مجبولة من خجلٍ و صراحة !! .
* خلفيّة عائليّة معقّدة:
ولِد موديانو في 30 تموز 1945 مع إسدال الستارة الختاميّة على مشاهد الحرب العالميّة الثانية و نشأ في إحدى الضواحي الباريسيّة في كنف عائلة كان لخلفيّتها الإشكاليّة المعقّدة أثرٌ بالغ في هوس موديانو طيلة حياته بذلك الجانب المظلم من تأريخ عائلته : كان والده ، ألبرتو موديانو ، يهوديّاً إيطاليّاً ذا صِلاتٍ مع الغستابو النازيّ لذا لم يتوجّب عليه وضع النجمة الصفراء الّتي كانت تميّز اليهود عن غيرهم و في ذات الوقت كانت له صلاتٌ مع عصابات الجريمة المنظّمة .
* نشأة شقية:
تقع أعمال موديانو جميعها في قعر فخّ نشأته الباردة التعيسة التي تفتقد البهجة بشكل مأساويّ - كما يقول هو - . و من هنا ينشأ الاعتقاد بأنّ أعماله هي بمثابة رسالة عتاب طويلة مرسلة إلى والديه !! وصف الكاتب فيها والدته بانّها كانت باردة القلب حدّ انّ كلبها نوع تشو – تشو قفز مرّة من النافذة بقصد الانتحار !! . قضى موديانو وقتاّ طويلاً من طفولته في المدارس الداخليّة لكونه الابن الأكبر للعائلة و مات اخوه ( رودي Rudy ) عام 1957 عندما كان موديانو لا يزال طفلاً ، و عندما بلغ السابعة عشرة قطع كلّ صلاته مع والده الذي توفّى بعد ذلك بخمسة عشر عاماً و قد خصّص موديانو العديد من كتبه لاحقاً للحديث عن والده .
* ليس من المتحمّسين جدا للكتابة:
في واحدةٍ من حواراته القليلة في الفيغارو الباريسيّة صرّح موديانو " إنّ الكتابة عبءٌ أكثر من كونها متعةٌ بالنسبة إليه " ، ثمّ أضاف " لوقتٍ طويل كان لديّ حلمٌ يراودني على الدوام : أن أرى نفسي يوماً غير مضطرّ للكتابة و أن أكون حرّاً . أنا لستُ حرّاً اليوم و لا زلت أؤدّي عملاً أظنّ انّني لن أرى له نهاية يوماً ما " ، ثمّ مضى واصفاً متاعبه عندما بدأ الكتابة للمرّة الأولى في حياته " عندما أعود اليوم لمعاينة مخطوطاتي القديمة التي كتبتها أوّل عهدي بالكتابة أصعقُ لرؤية ما تضمّه تلك المخطوطات من فقر و إيحاء بضيق النفس و هو بالضبط ما كنت أُعانيه آنذاك : كنتُ أختنق " ، لكنّ موديانو مضى بعزم و ثبات في حرفته الكتابيّة و كوفئ على عزيمته . يقارن موديانو الكتابة مع السياقة في الضباب " حيث لا تدري أين أنت ذاهبٌ و كلّ ما تعرفه هو أنّ عليك أن تمضي حسب " .
* نشر أعماله منذ أن كان في الثانية والعشرين:
نشر موديانو نحو ثلاثين عملاً هي في أغلبها روايات قصيرة و سبق له أن نشر أوّل أعماله عندما كان في الثانية و العشرين حسب في وقتٍ كان فيه نظراؤه يجاهدون في كتابة محض مقالات بسيطة تتطلّبها فروضهم الجامعيّة . ينسّبُ موديانو هذا الامتياز الذي جعله يختلف عن الآخرين إلى الكاتب الفرنسيّ ( Raymond Queneau ) الّذي كان صديقاً لوالدته و هو من قدّم موديانو إلى دار نشر ( غاليمار ) الفرنسيّة الّتي نشرت أوّل أعماله .
* رفض ترشيح الأكاديميّة الفرنسيّة لتثبيت اسمه في سجلّ الخالدين:
الأكاديميّة الفرنسيّة العتيدة ذات التقاليد التأريخيّة الصارمة ، و الّتي تعدّ الملاك القيّم على الثقافة و اللغة الفرنسيّتين كانت اقترحت ضمّ اسم موديانو إلى لائحتها المشهورة لمن تصفهم بـ ( الخالدون The Immortals ) و لكنّ موديانو رفض ترشيحها بعد معرفته حجم الشهرة و الأضواء التي ستأتيه من وراء هذا الترشيح و هو الأمر الّذي لم يكن ليرضيه أبداً.