الآداب- شكل من أشكال الفن , وكل شكل من هذه الأشكال يمتلك بالطبع أداة التعبيرالخاصة به, و على هذا الأساس , تعد الألوان أداة تعبير الفنون التشكيلية, والأصوات اداة تعبير الموسيقى , والأحجار والخشب والمرمر..الخ أدوات تعبير النحت ... الى آخره , أما
الآداب- شكل من أشكال الفن , وكل شكل من هذه الأشكال يمتلك بالطبع أداة التعبيرالخاصة به, و على هذا الأساس , تعد الألوان أداة تعبير الفنون التشكيلية, والأصوات اداة تعبير الموسيقى , والأحجار والخشب والمرمر..الخ أدوات تعبير النحت ... الى آخره , أما الآداب فان أداة تعبيرها هي – الكلمة, واللغة المحددة بالتالي باعتبارها مجموع تلك الكلمات المحددة , ولهذا يمكن للفنون التشكيلية والموسيقية والنحت ...الخ ان تكون عالمية وقومية في آن واحد حتى عند ولادتها لأن وسائل تعبيرها مفهومة للجميع بغض النظر عن قومية هذا او ذاك من المتلقين لها من البشر.
اما الآداب فإنها ظاهرة قومية بحتة بالضرورة , لأنها ترتبط بأداتها التعبيرية , وهي اللغة القومية لكل شعب, ويمكن بالطبع ان تصبح الآداب القومية ظاهرة عالمية في الفن – مثل بقية الأشكال الأخرى للفن - عندما تتحول الى آداب عالمية , اي عندما تعبر – وبشكل فني رفيع و رائع- عن معاناة الانسان في كل مكان وأحاسيسه وهمومه المشتركة في مسيرة الحياة الإنسانية عموما , وعندما تتم ترجمتها طبعا الى لغات اخرى بمستوى فني رفيع , ولكنها تبقى قبل كل شيء آخر- ظاهرة قومية لارتباطها باللغة القومية لذلك الشعب . وعند معظم الشعوب يوجد اسم أديب او عدة أسماء من الأدباء تمثٌل نموذجية تلك اللغة القومية , وتتجسد مفرداتها وخصائصها في مجمل نتاجاتهم في تاريخ تلك الأمة ولغتها , و الكساندر سرغيفيتش بوشكين (1799-1837 ) - هو النموذج الأول بالنسبة للشعب الروسي واللغة الروسية بلا أدنى شك , وليس من باب الصدفة بتاتا ان الدولة الروسية قد حددت يوم السادس من حزيران / يونيو من كل عام يوما عالميا للغة الروسية ( يتم فيه الاحتفال الشامل والكبير والإشادة باللغة الروسية داخل روسيا وخارجها) لأنه يوم ميلاد أديبها الكبير بوشكين , وقد حدث ذلك عندما زار الرئيس الروسي - في حينها – دميتري ميدفيديف معهد بوشكين للغة الروسية في موسكو وتحدث مع كبار الاختصاصيين في اللغة الروسية وآدابها حول ذلك , ومن نافل القول الإشارة هنا الى ان هذا الصرح العلمي المشهور على المستوى العالمي وهو - المعهد المركزي لدراسة اللغة الروسية في العاصمة الروسية موسكو يحمل اسم الشاعر والأديب الروسي الكبير بوشكين نفسه .
لقد أصدرت أكاديمية العلوم السوفيتية في حينها بموسكو في أعوام ( 1956- 1960 ) الطبعة الاولى من كتاب بعنوان – ( قاموس لغة بوشكين ) ويقع بأربعة أجزاء وبإشراف مباشر من قبل الاكاديمي السوفيتي المعروف فينوغرادوف , والذي يعد واحدا من أكبر المتخصصين في اللغة الروسية , وهو قاموس فريد من نوعه يضم المفردات الروسية التي استخدمها بوشكين في نتاجاته الأدبية المتنوعة في الشعر والنثر, وقد ضم اكثر من 21 الف مفردة روسية , وفي عام 1982 صدر ملحق إضافي لذلك القاموس ضٌم 1642 مفردة جديدة اخرى , وتم إصدار الطبعة الثانية لقاموس لغة بوشكين عام 2000 من قبل أكاديمية العلوم الروسية ايضا ( اي بعد انهيار الاتحاد السوفيتي في عام 1991 )وبالذات بعد الاحتفالات المهيبة التي أقامتها روسيا الاتحادية بالذكرى المئوية الثانية لميلاد بوشكين عام 1999 , وهذا مؤشٌر يمتلك دلالة فكرية كبيرة ومهمة جدا في هذا الشأن طبعا , اذ انه يعني – فيما يعنيه – ان الموقف تجاه بوشكين مستمر بنفس ذلك الاتجاه رغم التغيير الجذري الذي حدث في روسيا ومسيرتها , اي باعتبار بوشكين رمزا لروسيا ولغتها . وعلى الرغم من وجود قواميس مشابهة لهذا القاموس بالنسبة لبعض الأدباء الروس الكبار الآخرين , إلا أن عدد تلك المفردات في قاموس لغة بوشكين اكثر واعلى من كل تلك القواميس الاخرى للأدباء الروس , ومن جملة الأشياء التي وقفنا تجاهها مندهشين – عندما كنا طلبة في الجامعات الروسية السوفيتية آنذاك قبل خمسين سنة ونيّف من الآن – ما ذكره لنا في حينها أحد أساتذتنا الروس قائلا , ان عدد المفردات التي استخدمها بوشكين ( الذي عاش 38 سنة ليس الا وتقع مؤلفاته الكاملة في احسن الأحوال في حدود عشرين مجلدا لا غير) هي اكثر من عدد المفردات التي استخدمها تولستوي ( الذي عاش 82 سنة وبلغ عدد مؤلفاته الكاملة 90 مجلدا ), ولا يرتبط هذا الموضوع بتولستوي فقط , بل بكل الأدباء الروس بشكل عام , ويمكن القول ان الروس – ولحد الآن - عندما يختلفون حول مفردة- ما يحاولون ان يستشهدوا بشعر بوشكين لإثبات صحة آرائهم في اللغة الروسية , وعندها يحسمون تلك الاختلافات اللغوية حول اللغة الروسية , وقد كنت شاهدا على عدة حوادث حول ذلك, وأريد الإشارة هنا الى ان المصادر الروسية كافة تؤكد دائما ان بوشكين هو من وضع الأساس للغة الروسية المعاصرة اليوم , وانه يجسّد مرحلة جديدة فعلا في مسيرة اللغة الروسية وتاريخها , اذ انه حررها من الأسلوب الجامد القديم وتزمّته المقيت ومنحها حيوية اللغة التي يتكلم بها الشعب الروسي في حياته اليومية الاعتيادية , ومن الطريف ان نشير هنا الى ان هذا الواقع متفق عليه من قبل الروس جميعا رغم الاختلافات الفكرية الكبيرة - وحتى الجذرية - بين مختلف المدارس الايديولوجية الروسية كما هو معروف , وحتى لينين أشار – في احدى مقالاته - الى ضرورة دراسة اللغة الروسية المعاصرة من ( بوشكين الى غوركي ) , اي معتبرا ان بوشكين هو بداية اللغة الروسية المعاصرة, وذلك موجود ومثبت في المصادر السوفيتية التي درسناها آنذاك في حينها , اما ستالين , الذي اصدر في حينه كتيبا بعنوان – ( الماركسية وقضايا علم اللغة ), والمترجم الى اللغة العربية , والذي ذكرته كل المصادر السوفيتية طبعا في حينها وأشادت به ومجدته واعتبرته مصدرا أساسيا في علم اللغة أثناء تلك الفترة الستالينية المعروفة والمشهورة جدا في التاريخ الروسي الحديث ( وانعكس ذلك حتى في المصادر العربية حول الماركسية – اللينينية في حينها طبعا ), أشار ايضا الى ان روسيا دمرت النظام الإقطاعي و النظام الرأسمالي وأخذت تبني النظام الاشتراكي , إلا أن اللغة الروسية المعاصرة التي تناولت كل هذه الجوانب المتعددة والمختلفة في مسيرة تلك اللغة وعبّرت عنها لا تتميز او تختلف كثيرا عن اللغة الروسية التي كتب بها بوشكين شعره ونثره , وقد استخدمت مرة , في بغداد , جوهر هذه الفكرة وروحيتها , وقلت في احدى مقالاتي دفاعا عن اللغة الروسية بالعراق في تلك المرحلة ( والتي كانت السلطات العراقية في تسعينيات القرن الماضي تنظر اليها على انها لغة شيوعية ليس الا ) الى عدم وجود لغة تحمل صفة ايديولوجية ابدا , وان هذا مفهوم خاطئ وساذج وسقيم , و ان تسمية اللغة الروسية بانها - ( لغة لينين ) لا يعني ابدا ان تلك اللغة ليست – في نفس الوقت - (لغة بوشكين) وعشرات , بل والمئات من الأدباء و العلماء والمفكرين الروس الآخرين.