في الفترة التي صعد فيها الإخوان الى دفّة الحكم في مصر كان يتردد سؤال يكاد أن يكون مشتركاً بين كل المعنيين بشأن الثقافة العربية فحواه: هل ستمضي مصر ،البلد العريق و"مفرخة" المبدعين، في هذا الطريق المظلم الكئيب ، وهل سيتراجع الفن، والسينما بخاصة، وتحل م
في الفترة التي صعد فيها الإخوان الى دفّة الحكم في مصر كان يتردد سؤال يكاد أن يكون مشتركاً بين كل المعنيين بشأن الثقافة العربية فحواه: هل ستمضي مصر ،البلد العريق و"مفرخة" المبدعين، في هذا الطريق المظلم الكئيب ، وهل سيتراجع الفن، والسينما بخاصة، وتحل محلها أنماط من التفكير والثقافة المنغلقة لا تتوافق بالمطلق مع طبيعة تكوين ثقافي واجتماعي شعبي تميز بالانفتاح والتجديد على مدى تاريخ طويل. كان السؤال عن السينما ملحاحاً وعفوياً: أين سيذهب الفنانون وما هو مصير التلفزيون وهل سيسدل الستار على تاريخ من متعة الفرجة التي دشنها المصريون منذ قرابة قرن؟.
مع اقتراب موعد انعقاد دورات المهرجان خلال سنوات الحراك الشعبي كان الحريصون على ثقافة مصر مهمومين بالسؤال عن استمراره وعقد دوراته بأوقاتها مهما كلف الثمن، ولهذا شعر كثر منهم بالخيبة حين أُجلت إحدى دوراته!. لم يهتموا بالسؤال عن مَنْ سيتولى المهمة، لأن المهم بالنسبة اليهم أن يستمر المهرجان وأن تستمر الحياة الثقافية المصرية. كان التشديد نابعاً من وعي بأهمية المضي في طريق الحياة ومباهجها الإبداعية. لقد انعطفت الطريق وابتعد خطر محو الثقافة التنويرية مع كل ما شابها من ضعف، وفي متغير لافت، متسق، أُعلن عن تولي سمير فريد إدارة المهرجان ، فارتفع مستوى "التفاؤل" عالياً لأسباب ليس هنا متسع يكفي لذكرها ، ولكن لابأس من الإشارة الى أن الرجل قد أمضى أكثر من نصف قرن من عمره في مهنة الكتابة النقدية السينمائية، متابعاً لتحولات الفن السابع إقليمياً وعالمياً، وعارفاً بتفاصيل تطورها محلياً، وكم تمنيت هنا لو كانت مداخلته عن تجربته الشخصية مع السينما أثناء تكريمه قبل سنوات قليلة في مهرجان نيودلهي (أوسيان سيني فان) مكتوبة أو مسجلة. نصف ساعة من الحديث عنها تكفي لمنح سامعها فكرة عن خبرة الرجل ورؤيته لهذا الفن الذي خبر ساحته المصرية جيداً.
أول الأشياء التي تشي برغبة جدية في التغيير وترسيخ عمل مهرجان البلد "المصنِّع الوحيد" في الوطن العربي للسينما أن يكون مؤسسة. إذا حالفه الحظ وتعاون الآخرون معه فسيسجل هذا المنجز له ولفريق عمله الذي أراده أن يكون شبابياً يستمد خبرته من مكرسين سبقوه. يعرف سمير فريد الناقد والكاتب ما الذي يعنيه تشييد مؤسسة في بلد يمر في مرحلة اضطراب ولهذا تراه متوازناً لا ينشد تغييراً دراماتيكياً، بقدر ما ينشد تعاوناً وتآزراً، مصر كلها بحاجة اليه. على مستوى المهنة تراه أكثر اندفاعاً لأنه يريد لمهرجان مصر أن يكون بمستوى حضورها في هذا الحقل، والخبرة هنا لها الدور الكبير في رسم توجهات المهرجان مستقبلاً. لطالما طالب الناقد أن تتسع مساحة لجان تحكيم المهرجانات العربية للنقاد، واليوم ولأن الأمر بيده ويتوافق مع رغبته الواعية بأهمية النقد السينمائي أعطى لهم مكانة ملحوظة في أغلبية لجان الدورة الجديدة الـ 36. وفي البرمجة اعتمدت الدورة على شباب توزعوا على المهرجانات العالمية واختاروا ما يرونه جيداً، فكانت الحصيلة لافتة متميزة و"تغييرية" فلأول مرة تُدرج بين أفلام المسابقة الدولية أفلام تسجيلية وأنيميشن (تحريك)، فيما ضمت الخانات الأخرى أفلاماً نوعية، نخبوية حرصوا على أن يتعرف عليها المشاهد المصري أثناء المهرجان في أقل الطموح.
وللإنصاف ، لا بد من التذكير أن مهرجان القاهرة لم يأت من العدم ولا يقام اليوم لأول مرة ولم ينزل سمير فريد من الفضاء فالتاريخ لايمكن تجاهله وما بناه الأولون كفيل بضمان نجاح ما يريده التواقون لترسيخ مؤسسة لها تقاليد وخبرة تمنح الجدد من البناة إمكانية التأسيس والتراكم عليها.