محمد حسين هيكل (1888 – 1956) رائد كريم من جيل كله رواد قادة ، ولد في قرية من قرى مصر يقال لها (كفر غنام) فاتصل بالطبيعة والمجتمع وتشرب روح البلد ، درس الحقوق في القاهرة وأحرز شهادتها في سنة (1909 ) ثم عبر البحر إلى فرنسا ، ودرس الحقوق في السورب
محمد حسين هيكل (1888 – 1956) رائد كريم من جيل كله رواد قادة ، ولد في قرية من قرى مصر يقال لها (كفر غنام) فاتصل بالطبيعة والمجتمع وتشرب روح البلد ، درس الحقوق في القاهرة وأحرز شهادتها في سنة (1909 ) ثم عبر البحر إلى فرنسا ، ودرس الحقوق في السوربون ، ونال شهادتها في سنة (1912) . وعاد إلى مصر يمارس المحاماة ، ويزاول السياسة ، ويكتب ضروبا من الأدب الرفيع . وكان وهو في فرنسا يدرس الحقوق ، لا يكف عن مواصلة قراءة الأدب الفرنسي ودراسته واستيعاب أفكاره وأساليبه ، وقد وقف عند الرواية وأراد أن يكون شيء منها في الأدب العربي فشرع يكتب (زينب) الرواية الرائدة التي كان بها رائد الأدب القصصي ! وكتب المقالة متوخيا فيها ضروبا من الفن ، وهو في أدبه هذا ينزع نحو العقل والحرية إذ لا قيام لمجتمع حديث إلا بهما .
وكان منسجما سلوكه مع فكره ، رصين البنيان لا تذهب به الزعازع جريئا في قول ما يراه صواباً يقول عنه توفيق الحكم في ((عودة الوعي )) وهو في سياق بيان ما أنشأته ثورة يوليو من ((محكمة )) تحكم رجال العهد السابق لزعزعة منزلتهم لدى الناس فكان منهم من اضطرب ، واختل ، وزلت قدمة وكان منهم – وهم قلة – من قال كلمة صدق وشجاعة كـ (( السياسي الأديب الدكتور محمد حسين هيكل ؛ سألته المحكمة : لماذا لم يقف في وجه طغيان فاروق وهو زعيم حزب ؟ فردّ على ضباط المحكمة بهدوء لأن فاروق كان يخيفنا بكم أنتم يا رجال جيشه ! ألم يكن فاروق هو القائد الأعلى للجيش وأنتم رجاله؟)).
كان رصين الفكر قوي الموقف يلتقي لديه المنحى النظري بالممارسة على نحو من التآزر والانسجام .
وكان إلى ذلك كله يضرب في النقد الأدبي بسهم وله رصيد من تجربة النقد الفرنسي التي أحسن استيعابها ، ومن تضلعه من الأدب العربي واللغة العربية والتاريخ الذي أحاط بهما ، ومن ذوق سليم يهديه إلى مواطن الأصالة ، وعناصر القوة في الأثر الأدبي ، وأول ما يبدو للدارس من نقده أنه نأى عن القدح وإعلان المثالب مما كان يغلب على ما يكتب في الصحافة الأدبية في الثلث الأول من القرن العشرين ، واقترب من الوقوف عند النص وبيان ما ينطوي عليه.
وقد اتخذت مزاولة النقد عنده مسلكين : مسلك يتجه نحو الإطار النظري، وآخر يتجه نحو التطبيق ، وبينهما وشائج قائمة .
وكان من الإطار النظري عنده أن الأدب تعبير عن صور الحياة ، وأنه مرآة العصر، وينبغي أن يجد فيه القراء أصداء أنفسهم وما يضطرب في مجتمعهم من مشكلات ، ولا ريب في أن فكرة كهذه جديدة يومئذ . فلقد كانت أعين الشعراء تنظر في الشعر العربي القديم وتستقي منه مادة شعرها . ولا ترى في وقائع الحياة شيئا صالحا أن يكون مدار أدب في الشعر أو النثر ، فلما دعا هيكل إلى أن يكون الأدب موصولا بالحياة ، وعزز دعوته بان كتب رواية (( زينب )) ذات الصلة الوثيقة بالمجتمع المصري ، وضع قدميه على سلم الريادة في النقد الأدبي الحديث.
وقد اقتضت هذه الفكرة ( الأدب تعبير عن الحياة ) حتى تشيع وتكون لها مكانة في الثقافة العربية الحديثة ، تآزر جيل من الأدباء النقاد في طليعتهم طه حسين ، وجماعة الديوان ( شكري والعقاد والمازني)، إذ التقت جهودهم جميعا على جعل الأدب شعرا ونثرا تعبيرا عن الحياة القائمة ، وليس استعادة لما قاله الأقدمون .
اتخذ هيكل هذا المبدأ النقدي وشرع ينظر بة إلى الآثار الأدبية ليقول أين تتصل بالحياة وتعبر عنها ، وأين تبتعد . وترجع إلى عصور سلفت.
ويتصل بذلك المبدأ ويتيح له التحقق أن تصقل اللغة ((لتمتزج بالأدب ولتكون لباسا شفافا موسيقيا رشيقا)) واللغة عنده ليست إلاّ الكساء الظاهر للأدب أما قوامه ففي (( الروح الذي يُلهم ما فيه من معان وصور وعواطف وإحساس )) ويؤكد ذلك قائلا : (( وإذا كان اللفظ لذاته ذا قيمة في الأدب من حيث موسيقاه وما تهز هذه الموسيقى النفس وما تعد العواطف لاجتلاء المعاني التي ينطوي عليها ، فلن يسمو هذا اللفظ بالغ ما بلغ رنينه ورصانته بمعنى غبر سام)) وهو في ذلك يردّ على أنصار القديم إذ كانوا يقدمون اللفظ ، وينظرون إلى دواوين الأدب القديم يمتحون منها أدبهم ، ويرون كفايتهم في ذلك ، على أن هيكل ، ومعه من يصل الأدب بالحياة ، يرى أن على الأديب (( أن يتغذى ما استطاع من ورد الفلسفة ومن ورد العلم . وهو كلما كان أكثر غذاء من هذين الوردين كان أقدر على أداء الرسالة وكان أديبا حقاً )) وعنده أن الأدب إنما هو رحيق العلم والفلسفة اللذين هما ثمرة الصلة الوثيقة بالحياة .
ولكي تكتمل أداة الأديب لابد له من أن يحسن الاطلاع على أدبه العربي ، وأن يحسن الاطلاع على آداب الأمم الأخرى ، وأن يتمثل تلك الآداب على أتم وجه . فالأدب العربي وحده ليس زادا كافيا فلا مندوحة من أن يضيف إليه الأديب الذي يروم أن يصل أدبه بالحياة – آدابا أخرى .وينبثق من مبدأ صلة الأدب بالحياة ، أن يكون شعور الأديب صادقا ، وأن يكون إحساسه عميقا وعنده أن (( كل فن ليس صادرا عن شعور صادق وإحساس عميق لا حياة فيه ولا بقاء له )) ، وهو في كلّ ذلك كأنه ينقض على من يرى الأدب في محاكاة دواوين الأقدمين ، ما يذهبون إليه ، ويعلن أن الأدب إنما يكون في صدق الشعور ، وفي استلهام وقائع الحياة .
وإذا كان الشعر قد عّبر عن مشاعر الأمة وعن فكرها ، زمنا طويلا ، فلا بد أن يُهياً الميدان لضرب آخر من الأدب يستوعب الحياة المعاصرة استيعابا حسنا ، ويستكمل ما غفل الشعر عن التعبير عنه ، وذلك الضرب الجديد هو (( الرواية )) . لقد عني هيكل بالأدب القصصي عناية كبيرة وحرص على أن تكون له منزلة رفيعة في الأدب العربي الحديث فكتب (( زينب )) ، ومضى يدعو إلى كتابة القصة والرواية ، وهو يرى أن : (( الرسائل التي كانت ذات مكانة سامية في زمن من الأزمان قد اختفت أو كادت ، والقطع الوصفية القائمة بذاتها ، والمكاتبات الأدبية الطريفة الأسلوب ، وما إلى ذلك من أنواع النثر ، قد اندمج في القصة وأصبح بعض ما تشتمله )) فكأنه يقول إن عصر القصة قد أطل وعلى الأدب العربي أن لا يتخلف عنه !
ومن أجل أن يزدهر القصص ويأخذ مداه شرع يتقصى أسباب فتوره في مطالع القرن العشرين حتى تتم معالجتها . وإذا كان الفن القصصي قد بلغ اليوم مدى واسعا وازدهر فلا بأس أن نعرف ما بدا لهيكل من أسباب فتوره يومئذ ، وهي : شيوع الأمية ، وقلة القراء ، وفتور الأغنياء عن معاضدة الأدب ، فلا يجد كاتب الرواية من ينهض به ، وغياب سيدات الصالونات الأدبية ممن يلهمن الأدباء ويسددن خطاهم، وضعف تربية العواطف تربية صحيحة مما يعيق المشاركة الوجدانية في ما يفرح وفي ما يحزن . وبين أن هيكل نظر في الآداب الغربية فرأى هذه الأسباب متحققة فيها وأنها غائبة في الثقافة العربية مطالع القرن العشرين فأرجع فتور الأدب القصصي إليها .
ومهما يكن من شيء فإن هيكل قد جعل الدعوة إلى إنشاء أدب قصصي يعبر عن المجتمع وأفراده . ولقد آتت تلك الدعوة خير الثمار مما هو مشهود في الأدب العربي الحديث .
لقد كان هيكل ، وهو يزاول الأدب ، رائدا من روّاد التجديد ، وقد أخرج تلك المبادئ النظرية إلى التطبيق إذ كتب عن الآثار الادبية التي رآها جديرة بالكتابة عنها .فلقد كتب عن أحمد شوقي دراسة رصينة جعلت مقدمة للشوقيات . وقليل من النقد الذي تناول شعر أحمد شوقي بلغ ما بلغت كتابة هيكل من عمق وإحاطة ؛ رأي شوقيا يجمع بين حب الحياة والإقبال عليها وتصوير متعها ، من جهة ، والنزوع الديني الإسلامي ، من مدائح النبي الكريم ، والتغني بالأمجاد الاسلامية ، من جهة أخرى ، وهو في كلا الأمرين متقد الشعور قوي الأداء ، صادق في الإعراب عن نفسه ؛ رأى ذلك منه فسعى أن يجد تفسيراً لهذا الازدواج فاهتدى إلى أن ذلك يرجع إلى أن شوقيا نشأ يحب الحياة ومتعها ، ويحب أن يعبر عن ذلك في شعره، ثم هو (( لم يكن في ملك نفسه ، فقد بعث به الخديو توفيق باشا ليتم علومه في أوروبا ... فلما عاد إلى مصر اتصل بالأمير الشاب عباس حلمي باشا وصار كلمته ... فحتم عليه ذلك أن يكون المعبّر عن الميول والآمال الكمينة في نفوس المسلمين جميعا)) فاجتمع لديه عنصران متباينان ، عنصر يتجه إلى متع الحياة ولهوها . وآخر يتجه إلى الأمة وما عقدت عليه من آمال . وكلا العنصرين أصيل عنده مكين من نفسه .
وينبغي أن نلاحظ أن هذا النمط من النقد الذي يتجه إلى تفسير شعر الشاعر ويربط بينه وبين حياته ، كان نادرا في مطالع القرن العشرين ، لا سيما وهو يكتب بلغة هادئة رصينة بعيدة عن الثناء المسرف ، أو الانتقاص المزري.
لقد اتخذ هيكل من مبدأ ((الشعر تعبير عن الحياة)) مصباحا يلقي بضوئه على شعر شوقي ويفسر ما يبدو فيه من ازدواج ، وذلك منحى منهجي كان عزيزا يومئذ . ومن يعيد النظر في ما كتب هيكل من نقد أدبي ، على قلته ، يجد فيه ناقدا أصيلا بصيرا بالأدب .
غير أن النقد الأدبي لم يكن إلاّ ساقية في نهر هيكل ، إذ إنه كان في المقام الأول رجل دولة ، يمارس شؤون السياسة والإدارة في درجاتها العليا ، ويميل إلى الأدب والنقد فتكتمل لديه عناصر الصورة فكرا وعملا.