TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > صناعة الموديل الثقافي المقبول

صناعة الموديل الثقافي المقبول

نشر في: 26 ديسمبر, 2014: 09:01 م

مَنْ يخلق في بلد من البلدان نمطاً نموذجياً للثقافة، ووفق أيّ الشروط يختطّ المبدع لنفسه نمطا ثقافيّاً وسلوكياً؟. بعبارة أخرى وفق أي الأنساق والنماذج يصنع لنفسه صورته الشخصية، وحسب أيّ النماذج تصطنع الحركة الثقافية كلها نموذجها العالي الذي تستهدي به؟.
إذا كان السؤال صائباً، لا تبدو الإجابة سهلة، بل لا تبدو محاولات الإجابة معقولة عندما يكون المثقفون الأفراد اختراقاً وانشقاقاً عن الأنساق القائمة، لكن خاصة عندما لا يدعمون انشقاقهم بمثل أيطيقيّ عالٍ، ويقترب البعض من أخلاقيات مشكوك بها، وينطلق آخرون من مصالح تتعارض مع مفهومٍ نبيلٍ للثقافة. اقترح هنا إمكانية القبول بفكرة أن الثقافة الأوربية قد صنعت موديلها الثقافي، ومثلها الأميركية، والأميركية اللاتينية، وكذلك الثقافة اليابانية مثلاً. واقترح بالمقابل أن المثقف الأوروبيّ والأميريكي واليابانيّ قد حدد بطريقة ما شكل صورته، صورة المثقف، مع اختلافات وظلال فردانية لا جدل حولها. عندما أقول الموديل لا أعنى قط (تنميطا) مُقْحَماً ولا (صورة) بنسخ متكرّرة جامدة.
طيّب، فلنطرح السؤال بصيغة عملية: أي موديل ثقافي سائد اليوم في الثقافة العربية، المشرقية؟. لكن ما هو الموديل في البدء؟. نعود إلى موسوعة معروفة لتعريفه: "مصطلح موديل هو توليفة من معنيين متماثلين هندسياً ومتعارضين لمفهوم التشابُه والمحاكاة والتمثيل. وهو يُستخدَم للإشارة إما إلى المعنى الأول وهو أصليّ أو الثاني الذي ينحرف من ممارسة المعماريين والمهندسين، ثم العلماء، ويتركز على بناء بروتوتيب (نموذج بدئيّ) محسوس أو مفهوميّ نعود إليه بصفته (موديلاً) لبناء فعليّ: لذا يصير الموديل، من بين أمور أخرى، تجميعاً للمفاهيم التي تمثِّل بطريقة مبسَّطة شيئاً حقيقياً موجوداً (حاجة مادية أو ظاهرة وما إلى ذلك) من أجل فهمه أو توقّع سلوكه...".
لو اتفقنا أن الموديل يُبنى، وأنه جماع المفاهيم التي تمثل بدورها أمراً واقعاً، فهل يوجد موديل ثقافي مقبول في عالمنا العربيّ؟. ظننا ذلك حتى أواخر السبعينات. كان هناك "بروتوتيب ثقافيّ" خرج من فترة النهضة العربية، منح للعقل والحرية والاختبار التجريبيّ، مكانة مرموقة حتى وهو يبحث في الشأن الدينيّ (الأفغاني، محمد عبده). الدولة العربية الخارجة من رحم الاستعمار سنوات الخمسينات، والأحزاب التي رافقتها (بما فيها القوميون العرب) حاولت توطين هذا الموديل عبر مسعاها الصعب لفصل الدين عن الدولة، والقيام بعملية تحديث شاملة. كان (التحديث) هو الموديل الثقافيّ الأعلى - رغم أنه سُمي على عجل (حداثة)، في الشعر الحديث والتصوير الحديث مثلاً. كان الموديل الجديد مقبولاً أوسع قبول في نطاق الوسط المتعلم الطالع الذي سُمي بالوسط الثقافيّ، كان الموديل هذا معياراً مقبولاً يستهدي الجميع به، أو يحاول حسب قدراته ومعارفه ومصالحه ومناهجه في الفكر والسياسة. كان من الصعب أن تجد مَن يعلن، بجلاءٍ وصراحةٍ، أنه يعارض هذا الموديل التحديثيّ، وإنْ حاول بعضهم تطويعه لمعتقداته القومية أو الدينية.
منذ نهاية السبعينات بدأ الشك يتسرب إلى الموديل الثقافي العام السائد. وقد ترافق ذلك مع صعود أحزاب قومانية عنيفة، واشتعال حروبها، وسقوط منظومات ثقافية وسياسية كبيرة (كالشيوعية) ثم الصعود الصاروخيّ للسلفيات الدينية المدعومة بمال وفير. من حينها حتى اليوم، لا يوجد موديل ثقافيّ معياريّ، مقبول على نطاق عام كما كان الأمر منذ حين. المسعى الراهن الذي يساهم به العرب وأعداؤهم هو تحطيم كل موديل، بغضّ النظر عن رصانته أو خلله الأصليّ. حتى الثوابت الجغرافية والإثنية والتاريخية صارت عرضة للتحطيم، ليس بداعي الثورة والتجديد، إنما لأسباب لا مجال لها هنا. يقوم الموديل شاخصاً من مفهوم التشابُه والمحاكاة والتمثيل أي الحوار بمعنى ما، بينما (الموديل الحالي) فإنه يقوم على عنف الاختلاف التام وإلغاء صورة الآخر والعبث، أي على إيقاف كلّ حوار.
هكذا علينا أن نفهم اليوم المُشرِّقين والمُغرّبين في الثقافة، الواقفين إزاء بعضهم بتعارض كامل أحياناً ومن دون موديل مرجعيّ عميق: كأنهم لم يجدوا أساساً واحداً ممكنا لمساومة بنّاءة عميقة.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram