منذ الأيام التي تلت سيطرة تنظيم ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" (داعش) على الموصل، وأنا اتأمل الكثير من صفحات الفيسبوك لمواطنين "سنَّة" من تكريت ومن العَلَم ومن الرمادي والفلوجة والموصل.. ووجدت ظواهر مغيبة إعلامياً أبرزها:
1- يجب أن لا نأخذ على
منذ الأيام التي تلت سيطرة تنظيم ما يسمى بـ"الدولة الإسلامية" (داعش) على الموصل، وأنا اتأمل الكثير من صفحات الفيسبوك لمواطنين "سنَّة" من تكريت ومن العَلَم ومن الرمادي والفلوجة والموصل.. ووجدت ظواهر مغيبة إعلامياً أبرزها:
1- يجب أن لا نأخذ على محمل الجد الحديث القائل، علناً وسراً، بأن السُنة رافضون مبدئياً ما يسمى بـ"الحكم الشيعي" (طبعاً أنا اتحفظ على هذه التسمية وأفضل بدلاً عنها العبارة الدستورية الطبيعية "حكم الأغلبية السياسية").. واضح ان مثل هذا الاعتراض المبدئي المزعوم يشترك في تسويقه اعلامياً بعض الساسة السُنة، وبعض الساسة الشيعة، وغرضه الضغط التكتيكي على بعضهم البعض من جهة، وعلى أوساطهم الشعبية من جهة أخرى. لقد وجدت مثلاً أن كثيراً من المواطنين السُنة في بعض المناطق التي اشرت إليها آنفاً نشروا كتابات يبينون فيها رضاهم عن تسمية رئيس وزراء جديد، بل ان بعضهم نشر كتابات تبشيرية بالتغيير بعد مرحلة المالكي، وبعضهم نشر صور العبادي مخاطباً إياه بالتبريك والتهنئة مع انتظار الخير منه للعراق.. وهذا يعني أنه إذا أحسن حيدر العبادي التعامل مع توق مجتمع "السُنة" للتغيير وأشعرهم به وكسب ثقتهم، فإنه سيطفئ الكثير من النيران المشتعلة في صدورهم، مهما كانت حقيقة أسباب هذه "النيران"، ويعني أيضاً البدء بمشروع حقيقي لتفتيت هذه الفكرة الشائعة المعيقة لبناء الدولة: "أن السُنة رافضون لما يسمى بالـ"حكم الشيعي" في العراق".
2- واضح أن المجتمع "السُني"، انهكه التمرد على الحكومة كثيراً، ويبحث عن طريقة تنهي تمرده ليرتاح، ولكن لا يشعر بأن عليه القاء سلاحه بسبب عدم وجود الثقة الكافية لذلك، أو هذا ما يُرَوَّج إعلامياً. بمعنى إنني وجدت – وسيجد كل من سيطلع مثلي على ما اطلعت عليه في صفحات الفيسبوك- أن لا شيوع شعبياً للكلام عن "اقليم سُني"، و"الانفصال عن العراق". نعم يوجد غضب وشتم وسخرية من المكون "الشيعي"، تحت تسميات "الشروك" و"الشيعة المجوس"، و"الفرس"، و"الصفويين".. وغيرها، ولكن يمكننا التعامل مع هذه التسميات على أنها تعبير عن غضب جاهل، وأنه رد فعل وقتي يزول مع ظروفه المؤقتة، ببرامج ومواقف حكومية وشعبية كبرى وبتطوير قطاعات التربية والتعليم والثقافة، مهما بدا للبعض أن هذه الظروف "تاريخية وتغييرها صعب إن لم يكن مستحيلاً". كما علينا ان لا ننسى أن بعض هذه الظروف أسهمت بإيجادها ممارسات مسيئة من بعض الضباط والجنود الشيعة المراهقين والموتورين في تلك المناطق، تصل أيضاً إلى الشتم والسخرية والإساءة إلى المعتقد والفكر. إضافة إلى تصرفات إقصائية لسياسيين ولمسؤولين حكوميين شيعة، يصل بعضهم نزولاً إلى درجة مدير عام ومدير مديرية ومدير قسم، وبالنسبة لي شخصياً، أنا "الشيعي" ابن النجف، والمنادي مع المنادين بدعم لا محدود للجيش وفرض القانون، وحماية العراق من عودة "صدام" آخر، مع تجنيب المدنيين العزّل كوارث الحرب والقتال، ودعم مشروع الديمقراطية الوليد في بلادنا.. أقول.. لم أشعر بأي تذمر من قراءة هذه الشتائم، حين واجهتني في صفحات الفيسبوك التي زرتها، لأنني دربت قلبي على تقبلها بسعة قلب المتأمل المتعمق، الفاهم بأنها ضريبة التحول التاريخي للدولة والنظام السياسي في العراق، وما صاحبه منذ 2003 من أحداث ووقائع معقدة.
3- من أبرز ما بَصُرْته: ظاهرة شكّلت عندي مشكلة منطقية لا أدري بالضبط كيف يجري التعامل معها حالياً من طرف المؤسسات الأمنية الحكومية.. إليكم تركيبها المنطقي:
شخص ينشر منشوراً يستذكر فيه صدام حسين، ويتحسر عليه، ويصفه بالبطل المجاهد ورمز الأمة. ثم ينشر في الوقت نفسه كتابات أخرى يبين فيها فرحه بتقدم الجيش في مدينته ضدّ عصابات داعش، وينشر صور مقتل بعض قادة الإرهاب في منطقته شامتاً بمقتلهم!!، وينشر صوراً لمدينته حين كانت آمنة متحسراً على ما يجري فيها الآن من دمار خلفته داعش. السؤال: كيف نتعامل مع هذا الشخص؟ فهو بمعيار بعض فقرات الدستور وقوانين اجتثاث البعث يجب محاسبته لنشره تبجيلاً لصدام. وهو بمعيار فقرات دستورية وقانونية أخرى وقانون 4 إرهاب، يمثل مواطناً صالحاً يقدم خدمة جليلة للدولة لالتزامه بحماية الأمن في مدينته ضدّ الإرهاب، بل إن الدولة بأمس الحاجة إليه لتدعيم فرض القانون في مدينته؟ كيف نتعامل معه؟
هنالك احتمال يفسر جزءاً من هذه الظاهرة، أن بعض المنخرطين فيها هم من داعمي التمرد البعثي قبل ظهور داعش، وربما كانت الأخبار صحيحة باندلاع صراع دموي بينهم وبين داعش جعلهم يستقوون بالحكومة (عدوهم القديم) على داعش (عدوهم الجديد). لكن مع فرضية هذا الاحتمال، وانه يفسر جزءاً من هذه الظاهرة، نتساءل: كيف يمكن للحكومة وللساسة الشيعة تحديداً الاستفادة من هذه الظاهرة لتجسيد الثقة بينهم وبين المجتمع الشعبي السُني؟
4- استكمالاً للنقطة السابقة: اعتقد أن تغييراً في القيم السياسية لدى الساسة الشيعة قادم لا محالة تجاه عقولهم. وأبرز ملامح هذا التغيير أن الصراع ضدّ داعش (قد) يجعلهم يعيدون النظر في قضية "الموقف من نظام صدام" الذي يستخدمونه عادة (أو يزعمون استخدامه) معياراً لاختيار أصدقائهم وأعدائهم في العملية السياسية، وبخاصة السُنة منهم، فقد برز الآن معيار أشد قوة وضغطاً على حسابات الأمن القومي: انه الموقف من داعش. واعتقد أن المزاج الشعبي وضغط الرأي العام الداعم لكل من يقف مع الحكومة الآن ضدّ داعش هو سبب ضاغط على الساسة لهذا التغيير. ولنا هنا مثال جيد في تغيير الموقف العام، الشعبي والرسمي، من النائب مشعان الجبوري على خلفية إعلانه الحرب على داعش، بعد سنوات قضاها في الدعاية لصدام و"المقاومة المسلحة". ولقد سمعت من احد رجال الدين الشباب المرموقين في النجف، أنه لو تمتع صانع القرار الحكومي الشيعي، ومتخذه، بشيء من البراغماتية لاستطاع فتح حوار مباشر مع الفصائل المسلحة البعثية، والتفاهم على حلول جذرية ونهائية لصالح السلم والأمن في العراق، ففي الحقيقة ان نظام البعث والقيم "الصدامية" في إدارة الدولة لا رجعة لها في بلادنا، والمواطنون السُنة يعرفون هذا جيداً، كما ان توحّد المصير ضد داعش يسوّغ لنا أن نجلس مع من توحَّد معنا ضدها. أم ماذا؟
5- بدا لي أن الفيس بوك عند غالبية الشرائح "الشعبية" العراقية شبيه بمكان فيه قاعتان كبيرتان مغلقتان، يجلس في أولاها الشيعة يتخاطبون فيما بينهم، ويرى كثير منهم أنهم ملائكة لا يخطئون، ويتوعد الموتورون منهم السُنة ويسخرون منهم، مع إشاعة فكرة عامة عنهم أنهم ألعوبة بيد السعودية وقطر وتركيا، وأنهم ليسوا أكثر من جماعات إرهابية، ومجموعة متباكين على حكمٍ مضى، وفلول للبعث، وأن بيوتهم عبارة عن غرف نوم للإرهابيين القادمين من خلف الحدود، وأنهم من ثمّ صنيعة أميركا وإسرائيل. أما في القاعة الكبيرة الثانية فيجلس السُنة يتخاطبون فيما بينهم، ويرى كثير منهم أنهم ملائكة لا يخطئون، ويتوعد الموتورون منهم الشيعة ويسخرون منهم، مع إشاعة فكرة عامة عنهم أنهم ألعوبة بيد إيران، وأنهم ليسوا أكثر من صفويين ومجوس ومليشيات وخونة للوطن، وأنهم ((أيضاً)) صنيعة أميركا وإسرائيل. الممرات بين القاعتين الكبيرتين تكاد تكون مقطوعة، لولا وجود عقلاء قليلين يشتركون بالتواجد في المكانين معاً، مع اعتراضهم المعلن أو الخفيّ على ما يقال فيهما.. هم قليلون جداً وغير مؤثرين تأثيراً واضحاً، إنهم أحياناً يكتفون بمد رؤوسهم في هذه القاعة أو تلك.
6- أدعو أصدقائي المثقفين والإعلاميين وصانعي الرأي من "السُنة" و"الشيعة"، بإكثار التجوّل في صفحات المجتمع الشعبي للطائفتين، وفهم تفكيرهم السائد، والقيام بمحاولات جادة وحقيقية لإظهار هواجس كل فريق ومشكلاته، إظهاراً إيجابياً بنّاءً في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي للفريق الآخر، ممزوجاً بكميات ضخمة من الحب والتعاطف وتفهم الآخر، مع الدخول برأي العقل والحكمة في هذه الصفحات، وبث شرَفيّة الالتزام بالروح العراقية بلا شروط مسبقة، والتقاط أصدقاء يحملون بذرات إصلاحية وأمل بالمستقبل بينهم، وتشجيع نقد النفس قبل نقد الآخر، ومحاولة التأثير الإيجابي قدر الإمكان في عقول شبابنا الذين أنهكتهم الكراهية، وأكل أرواحهم القلق، والحث على أننا نعيش مرحلة من فقدان الثقة الدمويّ الذي لن يخرج أحد منه منتصراً، ولا حلّ لنا إلا تأسيس ثقة جديدة تاريخياً، إذ لا وجود لاحتمال واقعي آخر غيره ينقذنا.
7- أدعو منظمات المجتمع المدني والناشطين المدنيين الأبطال أن يفكروا بمشاريع تداخل وتواصل نافع مداوٍ للجروح بين المجتمعين الشعبيين السُني والشيعي، المتواجدين في صفحات التواصل الاجتماعي، وتشكيل جماعات مدنية شعبية من الطرفين تأخذ على عاتقها تأسيس صفحات "فيسبوكية" للتحاور البنّاء بينهما، مع حذف الشتائم والسخريات وعبارات الكراهية، فلربما ساعد ما ينجح من هذه المشاريع الناشطين المدنيين انفسهم وشرفاء السياسة ورؤساء العشائر والوجهاء من الطرفين بتحويلها إلى قوانين وفعاليات ووقائع ينتج عنها عمليات تأسيس كبرى للسلم والأمن في مجتمعنا العراقي الجريح. هل نستطيع؟ نعم، برأيي إننا نستطيع ذلك بكل تأكيد، وتاريخ الأمم فيه عشرات الأمثلة.
جميع التعليقات 2
علي كريم
جهد طيب وفكره ممتازة . أتمنى ان يتوفر الكثيرين ممن يبذلون جهودا مماثلة للحد من تدهور العلاقه بين أفراد وتجمعات الشعب في العراق . أتمنى ايضا ان يتلاشى هذا التطأف ويختفي هذا التعريف بالنفس على أساس الطائفه. أتمنى ان يعلو صوت الشريحة التي تنبذ الطائفيه للتعر
علي كريم
جهد طيب وفكره ممتازة . أتمنى ان يتوفر الكثيرين ممن يبذلون جهودا مماثلة للحد من تدهور العلاقه بين أفراد وتجمعات الشعب في العراق . أتمنى ايضا ان يتلاشى هذا التطأف ويختفي هذا التعريف بالنفس على أساس الطائفه. أتمنى ان يعلو صوت الشريحة التي تنبذ الطائفيه للتعر