TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > شعراء اليوم: (جمهورية أفلاطون) و(سورة الشعراء)

شعراء اليوم: (جمهورية أفلاطون) و(سورة الشعراء)

نشر في: 13 فبراير, 2015: 02:17 ص

اقترن الشعر العربيّ بالحكمة والشاعر بالحكيم، بالمعنى الذي يمكن أن نتأوّله اليوم بالتأمل العميق بالعالم، لذا كان الشعر رديفاً للمعنى الإغريقي لمفردة الفلسفة التي تتألف من حب + الحكمة. فهل طُرِدتِ (الحكمةُ) من عالم الشعراء العرب المعاصرين؟.
من المفيد العودة إلى جذر مفردة الحكمة اللغويّ وعلاقاتها بالحقل الأبستمولوجيّ الأصليّ الذي تنتمي إليه، ففي لسان العرب الحَكَمُ والحَكِيمُ والحاكِمُ متقارِبة، وأن الحَكَم والحَكِيم بمعنى الحاكِم وهو القاضي، فَهو فعِيلٌ بمعنى فاعَلٍ، أو هو الذي يُحْكِمُ الأَشياءَ ويتقنها، فهو فَعِيلٌ بمعنى مُفْعِلٍ، وقيل الحَكِيمُ ذو الحِكمة، والحَكْمَةُ عبارة عن معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم. ويقال لمَنْ يُحْسِنُ دقائق الصِّناعات ويُتقنها حَكِيمٌ، والحَكِيمُ يجوز أن يكون بمعنى الحاكِمِ مثل قَدِير بمعنى قادر وعَلِيمٍ بمعنى عالِمٍ. وأن الحُكْم الحِكْمَةُ من العلم، والحَكِيمُ العالِم وصاحب الحِكْمَة. وقد حَكُمَ أي صار حَكِيماً؛ قال النَّمِرُ بن تَوْلَب (وأَبْغِض بَغِيضَكَ بُغْضاً رُوَيْداً، إذا أنتَ حاوَلْتَ أن تَحْكُما) أي إذا حاوَلتَ أن تكون حَكيِماً. وأن الحُكْمُ هو العِلْمُ والفقه؛ قال الله (وآتيناه الحُكْمَ صَبِيّاً)، أي علماً وفقهاً، وجاء في الأحاديث (الصَّمْتُ حُكْمٌ وقليلٌ فاعِلُه)، وفي الحديث (إنَّ من الشعر لحُكْماً) أي إِن في الشعر كلاماً نافعاً يمنع من الجهل والسَّفَهِ ويَنهى عنهما، قيل أراد بها المواعظ والأمثال التي ينتفع الناس بها، ويروى (إن من الشعر لحِكْمَةً)، وهو بمعنى الحُكم.
يقع الحقل المعرفيّ الذي تنتمي إليه حكمة الشعر في نطاق الفعل (حَكَمَ)، وبالمعنى السياسيّ منه الذي طرد وفقه أفلاطون الشعراء من جمهوريته، قبلتهم الثقافة العربية وهي تفرّق اصطلاحياً بين الحاكم والحكيم مانحة إياهما مَلَكَة الحكْم السديد.
اليوم لم تعد ثقافة العرب راضية، بل هي عازفة عن منح الشعراء المعاصرين قدرات الحَكَم والحَكِيم والحاكِم كلها، ولم يطالبوا هم بوضعية مماثلة، أو يقترحوا مكانة أخرى، خلافاً لثقافات الشعوب الأخرى التي لا تزعم امتلاكها تاريخاً شعرياً كتاريخ الشعر العربيّ لكنها تتمسّك بشيء مماثل لحكمة الشعر والشعراء. فما الذي تغيّر؟.
عندما تعيد قراءة موقف أفلاطون من الشعراء تجد أنها تشابه قليلاً موقف القرآن منهم في سورة الشعراء. وأن مبرراته هي السبب، أو أحد الأسباب التي تدفع القارئ العربيّ المعاصر لاستبعادهم المؤسف الراهن من وعيه الثقافيّ. ففي بداية كتاب الجمهورية يشككّ أفلاطون بطبيعة الخطاب الشعريّ نفسه، ويعتبره غامضاً خلاف وضوح الفلسفة. وحين سأله سيموندس بنوع من الالتباس عن العدالة قال أفلاطون له بأنه يتحدث كما يتحدث الشعراء. في الكتاب الثاني من الجمهورية يُدْخِل الشعر كعنصر من عناصر تربية الأولاد، شريطة أن يُشِرِف عليه المُربّون والساسة. ثم ينتقد دلالات الشعر المتداول، ويقترح رميه خارج أسوار المدينة الفاضلة. في الكتاب الثالث تتضح صُراحاً عداوة أفلاطون للشعراء، فإن جمهورية تُبنى على العقلانية، لا يمكنها السماح بحضور الشعراء الذين يغيّبون العقل عبر تشويشهم لأذهان البشر، مستشهداً بالصور والخيالات المتناقضة غير العقلانية التي يقدّمونها للآلهة الإغريقية. في الكتاب الرابع يبدو الشعراء في صلب الفعل السياسيّ باعتبارهم من داعمي الاستبداد بسبب توصيفهم للطغاة كتوصيفهم للأرباب.
يختصر النص القرآنيّ، من جهته، أفكار أفلاطون بكلام جامع: (والشعراء يتبعهم الغاوون ألم تر أنهم في كل واد يهيمون وأنهم يقولون ما لا يفعلون إلا الذين آمنوا..).
الوعي الأفلاطونيّ يتماس قليلاً مع ما توصّل إليهم جمهور القرّاء العرب الحاليين، أضفْ له، في الوعي الشعبيّ العريض، غياب المثال الشعري العربيّ المعاصر (الأعلى) من الناحية الأيطيقية، وفي الوعي النخبويّ الانطباع العام بانطفاء النسق الثقافيّ الذي شرَّع له وعمل وفقه الشعراء – النموذجيون العرب المعاصرون، وفي النهاية الانحسار الشامل لنموذج الشاعر - الحكيم الذي دُوْفع عنه طويلاً، كما قد يقول أفلاطون المحافظ لو عاد مجدّداً.
أرسطو المتحرّر سيردّ عليه وسنقف نحن في الغالب جوار أرسطو.

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram