TOP

جريدة المدى > أعمدة واراء > الخطابُ الدينيّ يقتحم الفضاء

الخطابُ الدينيّ يقتحم الفضاء

نشر في: 27 فبراير, 2015: 02:50 ص

كنت خلال اليومين الماضيين في جولة في البلاد التونسية، ومررتُ بالمكناسي وسيدي بوزيد ومنزل بوزيان وقفصة، عوداً عبر بئر علي فالقيروان فتونس العاصمة ثم رجعتُ إلى قابس حيث أسكن وأعمل. وفي كل محطة كان لا بد من الاستراحة في مقهى أو مطعم، وفي كل منها، كما هي العادة اليوم في العالم العربيّ، جهاز تلفزيون معلق على الحائط. هل هي محض صدفة أن نلحظ في جلّ الفضائيات العربية التي كانت تبثّ موادها في تلك الفضاءات العامة، خطاباً دينياً أو حواراً ساخناً حول الخطاب الدينيّ أو تعليقات حول التديّن السلفيّ مدحاً أو قدحاً أو تحليلاً محايداً؟. ليست الصدفة قط. فقد صار هذا الخطاب الدينيّ يتغلغل في شعور ولا شعور المشاهدين العرب، ويقتحم عليهم منازلهم وخلواتهم الحميمة، حتى أني كنت أسمع، أثناء ذهابي إلى التواليت في أحد المطاعم، واحداً من هذه الحوارات، يشهد ضميري.
كان الخطاب الدينيّ المعتدل المعقلن، حتى وقت قريب، يَشْغِل حيّزاً محدّداً معقولاً في جميع البلدان العربية، وكان القول السائر "ساعة لقلبك وساعة لربك" هو القاعدة الشعبية والثقافية العامة في الإسلام والمسيحية العربية. لقد اشتقتِ الشعوب العربية، بطريقة خلاقةٍ، من حديث طويل رواه حنظلة الأسيدي وكان من كتّاب الرسول، يجيء فيه أنه قال للرسول: نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة، حتى كأنا رأي عين، فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات نسينا كثيراً، فقال الرسول من بين ما قال: "يا حنظلة ساعة وساعة" وكرّرها ثلاثاً. فحوّرها الضمير الشعبيّ إلى الصيغة المعروفة اليوم، لكي تستجيب إلى إسلام شعبيّ ظلّ قائماً عملياً طيلة العصور، مع صعوبات مُعتبَرة لم تكن القاعدة أبداً في الممارسة الاجتماعية، حتى ظهور الفكر السلفيّ وما أنتجه في أوقاتنا العصيبة من تكفيريات معاصرة. بل أن "ساعة لقلبك" كانت الطاغية بالأخرى في الحقل السوسيولوجي مُتجاوِزة، مراتٍ كثيرة وبدرجاتٍ بعيدةٍ، الساعة الأولى: في التجارة والسمر والخمرة واللهو والأعياد وزينة الذهب والفضة وأنواع الشعر الإباحيّ والزيجات والفنون الجميلة ومن بينها الموسيقى وغلو بعض التصوّف، بل المروق جهاراً نهاراً عن الساعة الأولى بُعيد الخروج من المسجد أو فترة الصيام. لسنا هنا لنلقي حكماً قيمة أو ندعو أحداً لهذا الأمر أو ذاك، ولسنا هنا لكي نصحّح سلوكاً شخصياً أو نبشّر بشيء، قدر ما نحن أمام فكرة عقلانية ودنيوية الخطاب الدينيّ اجتماعيّاً وشعبياً والخفوت العمليّ الملحوظ لصوت كلّ خطاب دينيّ متشدّد والتوازن المستمرّ تاريخياً بين الدنيويّ والمقدّس.
خفوت هذا الخطاب الدينيّ، المتشدّد وغير المتشدّد، لم يعد خافتاً كما تبرهن جميع الفضائيات العربية، لسبب بسيط: أن مفهوم العقلانية نفسه مضيَّع ومُتنَكَّر له على نطاق واسع في سنواتنا، ليس فقط لدى الجماعات المتطرفة المتأسلمة، بل في غالبية التجمّعات البشرية الكبيرة في العالم العربيّ، وإن اتخذ التنكّر والتضييع لبوساً زاهياً مدعياً للحداثة والمعاصرة إذا استوجب الأمر. خذْ مثلا الدراسات العليا في الجامعات العربية التي لا تقوم إلا شكلانياً على منهجية البحث ومنطق الاستقصاء الصارم إنما على إعادة الصياغة الأقرب للسرقة الفكرية، وخذْ اشتغال المثقف المتحوّل الحداثيّ لصالح مؤسسات تُناقِض جذرياً مشروعه وتحوّلاته. ماذا يبقى إذنْ من العقلانية، بل المنطق البسيط المتسق، ولماذا لا يتصاعد الخطاب الدينيّ ومصطلحاته بديلاً كبيراً، حتى لا نقول وحيداً تقريباً لما سواه؟.
الخطاب الدينيّ يقتحم، دون شك، الفضاء المتلفز بطريقة لا تستجيب لمفهوم "ساعة لقلبك وساعة لربك".

انضم الى المحادثة

255 حرف متبقي

ملحق معرض العراق الدولي للكتاب

الأكثر قراءة

العمود الثامن: الغرابي ومجزرة جسر الزيتون

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

العمود الثامن: نون النسوة تعانق الكتاب

العمود الثامن: مسيرات ومليارات!!

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

العمود الثامن: نصف قرن من التفوق

 علي حسين في مثل هذه الأيام، وبالتحديد في الثاني من كانون الاول عام 1971، أعلن الشيخ زايد عن انبثاق اتحاد الامارات العربية، وعندما جلس الرجل البالغ آنذاك خمسين عاماً على كرسي رئاسة الدولة،...
علي حسين

كلاكيت: في مديح مهند حيال في مديح شارع حيفا

 علاء المفرجي ليست موهبة العمل في السينما وتحديدا الإخراج، عبئا يحمله مهند حيال، علّه يجد طريقه للشهرة أو على الأقل للبروز في هذا العالم، بل هي صنيعة شغف، تسندها تجربة حياتية ومعرفية تتصاعد...
علاء المفرجي

البَصْرة.. لو التَّظاهرُ للماء والنَّخيل!

رشيد الخيّون تظاهر رجال دين بصريون، عمائم سود وبيض، ضد إقامة حفلات غنائيَّة بالبصرة، على أنها مدينة شبه مقدسة، شأنها شأن مدينتي النَّجف وكربلاء، فهي بالنسبة لهم تُعد مكاناً علوياً، لِما حدث فيها من...
رشيد الخيون

الانتخابات.. بين صراع النفوذ، وعودة السياسة القديمة

عصام الياسري الانتخابات البرلمانية في العراق (11 نوفمبر 2025) جرت في ظل بيئة أمنية نسبيا هادئة لكنها مشحونة سياسيا: قوائم السلطة التقليدية حافظت على نفوذها، وبرزت ادعاءات واسعة النطاق عن شراء أصوات وتلاعبات إدارية،...
عصام الياسري
linkedin facebook pinterest youtube rss twitter instagram facebook-blank rss-blank linkedin-blank pinterest youtube twitter instagram