(3)
إذا افترضَ قانونُ الجمال اليونانيّ في فني الرسم والنحت نظاماً للتمثيل يسمح بالحصول على الأناقة واللطف الهارمونيّ للأشكال، عبر نِسَب مثالية، ذهبية، فإن تصوير فرناندو بوتيرو يبدو على مسافة كبيرة من ذلك. هذا الـلطف الكلاسيكيّ يتنافر مع أعمال بوتيرو التي ترفضه بوعي وقصدية. لا يبدو قانون الجمال المتطابق مع (اليوميّ) لبوتيرو بعلاقة مع القانون الإغريقيّ الشهير.
يُقِيْم الرسّام الكولومبي نسقاً جمالياً للعري وفق نِسَبٍ خاصة به، معيداً الاعتبار في نهاية المطاف (حتى من دون أن يقصد) لملايين النساء والرجال الذين لا يمتلكون مثالية النموذج اليونانيّ وموديلات عصر النهضة. لذا يكثر استشهاد بوتيرو بالأعمال السابقة التي تقدِّم الجميلات العاريات، وفق أنماط "جماله" العاري المكتنِز بإفراط.
إنه يعاود تمثيل عاريات عصر النهضة التي رسمها بليني وتيسيان بذريعة فنيوس، وجُلّها تحمل إشارات أيروتيكية بل جنسية خفية قوية. يعاود بوتيرو الرجوع إلى لوحات فيلاسكيس كثيراً أيضاً، خاصة لوحته الشهيرة "فينوس أمام المرآة": فينوس مفرطة النرجسية ترى إلى انعكاس جمالها الحسيّ وتستعذبه. ولعله يعود أيضاً إلى عاريات آنغر في الحمام التركيّ ولوحته "المحظية الأولى". أحيانا يستلهم المستحمّات اللواتي رسمهنّ بروح انطباعيّ رينوار. امتلاء بعض نساء رينوار ناجم عن نقله الحَرْفي الواقعيّ لنساء عاديّات من ذلك الزمن، وليس عن أيّ تصوُّر ذاتيّ يرى جماليات مغايرة قابعة في الموديلات الممتلئة.
عودة بوتيرو واستشهاداته، المُعلنة والمستترة، تنطفئ فيها شحنات الجسد المثاليّ النهضويّ وما بعد النهضويّ وواقعية القرن التاسع عشر الجديدة المتجلية بمثال آنغر، وتكاد نكهة شبق نسوة تيسيان الماكرة والعادة السرية التي تمارسها إحداهنَّ بحركة عفوية ظاهرياً، تختفي لصالح أسى بالغ لدى عاريات بوتيرو وحزن كبير واندماج في ابتذال الحياة اليوميّة، وتكرارها وسماجة فضائهن الحميميّ فيها، وفي النهاية لصالح عزلة وجودية تماثل عزلة عاريات مدن الغرب الأميركي اللواتي رسمهن أدوارد هوبير، واللواتي يعانين من الضياع والغربة في المدن الصناعية الحديثة التي تقود إلى القطيعة. يحضر بعض ذلك عند بوتيرو في لعبة المرأة- المرآة نفسها متعدّدة المعاني التي حضرت لدى تيسيان وفيلاسكيس والكثير غيرهما.
فجأة اهتمّ بوتيرو بموضوع مختلف عن المسار العام لانشغالاته. فقد رسم مجموعة لوحات عن (أبو غريب) تضمّ سلسلة من 100 عمل (خمسون لوحة وعدة أعمال على الورق) على مدار عام أو نحو ذلك. وكلها تقدّم مشاهد أقرب إلى فعل قياميّ خانق كأنها خارجة من جحيم دانتي، بطريقة حديثة؛ حيث يحصل الخطّاءون على وجبتهم الأخيرة من الصالحين، لكأننا نرى فيها شياطين الجحيم بصفتهم أدوات للصلاح، بينما نرى من يقع تعذيبهم وحدهم أو في مجموعات صغيرة. إن بساطة السطح التصويري تقرّب أعمال أبو غريب من أعمال الدوانييه روسو البدائية حتى تبدو وكأنها نسخة حديثة منها. أما الشخوص فيها فإنها من الخفّة والهوائية بمكان، كما لو أنها قد انتفختْ بأقدام غير قادرة على الثبات على الأرض، وقد قيل عنها بأنها تمتلك خصائص الزوايا الحادة التي تُوحي بالنحت على الخشب، بعد أن كانت شخوصه تمتاز عموماً بالاستدارة.
جحيم دانتي الذي تمتاز به لوحات بوتيرو عن أبو غريب يُستعاد اليوم في العراق، بصيغة أشدّ فتكاً وقياميّة من أيام الاحتلال الأميركيّ للعراق. يقع الفارق في أن قيامية أيام سجن أبو غريب حدثتْ على يد المحتل، وهي تقوم اليوم على يد أبناء البلد نفسه.
فرناندو بوتيرو.. العودة إلى أبو غريب
نشر في: 5 يونيو, 2015: 09:01 م