(2-2)
فكرة (الحداثة) و(التحديث) قد مرت أولاً في العالم العربيّ بفن العمارة قبل مرورها على فنّي الرسم والنحت. نستهدي دائماً في استنتاج ذلك بالعمارة العثمانية المتأخرة التي لعلها أوحت للار ديكو الأوربيّ ببعض هواجسه. يكفي للمرء رؤية أسبلة السلطان أحمد نحو العام 1870 (وهناك صورة لها ترقى لعام 1860 تقريباً)، وأسبلة أخرى في القاهرة نحو العام 1870م، ليُدرك أنها تنطوي على الميّزات المقترَحة عادة للار ديكو اللاحق. أما إذا اعتبرنا خصائص العمارة السلجوقية التي وصفها الأوربيون بأنها باروكية، والتي منها تطلع العمائر العثمانية اللاحقة، فلسوف يتأكد أن فناً جديداً كان قد طلع بالفعل في العمارة العثمانية. سنتجاوز قصر سيراكان باسطنبول الذي صمّمه المهندسُ المعماريُّ من أصل أرمينيّ نيكوغايوس بايلان وتولى تشييده أبناؤه سركيس وهاكوب بايلان بين عامي 1863 و1867، ونتوقف عند تصميمه لقصر بايليربايي [باي البايات] الذي كان يُستخدم مقرّاً صيفياً للسلاطين ولاحقاً للشخصيات الأجنبية الزائرة. بُنيَ القصر بين الأعوام 1861 – 1864 بأمر من السلطان عبد العزيز في القسم الآسيويّ من البسفور. نعتقد أن جناح الحريم يخرج قليلاً عن النزعة الباروكية إلى نوع من فنتازيا غير معهودة في سنوات الستينيات من القرن التاسع عشر، وهذا أمر ليس قليل الإثارة، تسبق كل الحركات التزيينية في العمارة والأثاث وغير ذلك التي تهمّ فرضيتنا.
يَصْدق الأمر على منشآت المعماريّ ألكسندر فالوري (1850-1921)، وهو معماري عثمانيّ، من أصل مشرقي، دشّن تدريس العمارة في تركيا وكان بروفسوراً في مدرسة الفنون الجميلة في إسطنبول. ارتبط اسم فالوري خاصة بإبداع قصر بيرا بلاس (1881-1891) في إسطنبول، وفي حصيلته الكثير من الأعمال المعمارية الأخرى في الدولة العثمانية. يبرهن تصميم عمارته لجناح عبد المجيد أفندي عام 1901 في منطقة أوسكودار على نزوعه التزويقي الشرقيّ القويّ، بحيث نُسبت هذه البناية بسببه إلى الفن الباروكي مرة، وإلى لار نوفو مرة أخرى مضافاً إلى ذلك التأثير الموريسكيّ الطاغي فيها. ويُذكر عادة أن هذا التأثير حاضر في عدة فيللات صمّمها فالوري مثل فيللا جميل توبوزلو في حي كاديكو الأسطنبوليّ الشهير. ويُقصد بالموريسكيّ الفن الشرقيّ، العربيّ الإسلاميّ والأندلسيّ، وفخامة هذه الفيللا الأخيرة لا تقارَن بتواضع جناح عبد العزيز وأسبقيته الزمنية 1856، والأخير دليل قوي على النزعة الديكورية الطاغية في العمارة العثمانية، وقد يبرهن على فرضيتنا بوضوح، رغم أنه يوصف عادة بأن أسلوبه استشراقيّ.
من التعسُّف والسذاجة الزعم أن منجزات المعماريين العرب المعاصرين المشدودة للتراث ولعناصر الفن الإسلاميّ، تتحدّر من لار ديكو، فهذا ما لا نفكر به، ومن جهة أخرى، يتوجب أخذ "النهضة المعمارية" في العمارة العثمانية، منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر حتى الحرب العالمية الأولى، بالحسبان. لأنها شكّلت جيلاً من البنّائين والأسطوات وأشباه المعماريين بل المعماريين الذين سيعود إليهم يقيناً روّاد العمارة الحديثة في العالم العربي المزوَّدين بعُدّة ثقافية وأكاديمية أخرى، صاغوا عبرها العناصر التي استلموها أيضاً من البنائين والأسطوات المذكورين، ومن بنّائيهم المحليين، علما أن التداخُل والانتقال الجغرافي بين أولئك وهؤلاء كان متواتراً وعادياً.
رغم السمات التي ميَّزت المنعرج المعماريّ نحو الحداثة، فلا يمكن فكّ الاشتباك بين انشغالات المعماريين الجمالية والمفهومية مع أقرانهم التشكيليين الآخرين (الرسّامين والنحاتين...الخ). فليس من المصادفات أن يكون الكثير من المعماريين العرب الحداثيين قد مارسوا الرسم والتصوير الفوتوغرافي والنحت.
ها هنا يكتمل اجتماع الفنون جميعاً، انطلاقاً من بؤرةِ عدسةٍ مشعّةٍ واحدة.
العمارة العراقية المحلية والعمارة العثمانية المتأخرة
نشر في: 21 أغسطس, 2015: 09:01 م
جميع التعليقات 1
Anonymous
محتاجة تقرير عن العمارة العثمانيه في العراق لو ممكن الاقي عند حضرتكم بخصوص هالموضوع