التأمل بالشفاهيّ والمكتوب، في حقول الأدب مثلاً، يؤدي إلى نتائج مختلفة عن تأمل عمله في الحقل السياسيّ والإداريّ والوزاريّ، وهنا أتكلم عن الدولة العراقية الحالية.
ما هو الشفاهيّ؟. هو بالطبع الصادر والمنقول عن الشفة، عن النطق، عن اللسان، تفريقاً له عن الصادر عبر الكتابة. وأصل الكلمة بالفرنسية لاتينيّ يعني (الفم). التواصل الشفاهيّ، هو نسق يقوم على استخدام الكلام. وهو لا يتطلب بالضرورة استخدام الصوت، ونجده في لغة الإشارة وأشكال الاتصال المنطوقة وعبر الرموز الغرافيكية والصورية.
ففي حين يشكّل الشفاهيّ في الإرث الشعريّ للشعوب، طبقة معرفية مطمورة، يكفي إزالة التراب عنها حتى تتكشف عن حكمة متوارثة أو تجربة إنسانية ووجودية، وفي حين أن "اللغة واضحة النطق" أو البليغة هي شكل من أشكال التواصل الشفاهيّ، ذلك أن التواصل اللفظيّ أسلوب من أساليب اللغة (اللسان) الذي لا يمكن، من جهة أخرى، اختزاله ولا مماثلته بها، فإن الشفاهيّ يصير في الفضاء السياسيّ والإداريّ والوزاريّ العراقي، اليوم، لغة غير واضحة النطق، ولا بليغة، وليست من اللغة التواصلية بشيء، تصير تعمية وعماء وتغطية على جوهر المواضيع المُعالَجة.
لعل العراقيين توصلوا لذلك من خلال التجربة مع الدولة الراهنة. إذ عندما تتقدم بمعاملة لمعادلة شهادتك مثلاً، أو لتسوية خلافاتك المهنية بأمر يتعلق بوزارة من الوزارات، ولا يجيبك المعنيون والموظفون والوزراء عبر (رسالة مكتوبة) لإيضاح المطلوب منك ولا الإجابة على اعتراضك على شأن ما، بمادة قانونية أو قرار صريح أو قانون ثابت، مكتفين بالطلب منك مراجعة الدوائر، ثمّ مُلْقين على مسامعك، (شفاهياً فقط)، فحوى إجاباتهم، فإن الدولة وموظفيها ووزراءها يعفون أنفسهم جميعاً من الالتزامات الفعلية الواجبة: الجواب (المكتوب) وثيقة دامغة، لا يرغبون الاقتراب منها.
في هذه الحالة فإن الدولة تتهرب من المسؤولية عبر (الشفاهية)، زاعمة أنها تؤدي وظائفها رغم ذلك. وعلى سبيل المثال لم تُجِبْ وزارة التعليم العالي على أيّ من طلبات معادلة الشهادات العليا، على حد علمي، بشكل واضح أي برسالة مكتوبة، تُسلّم للمعنيّ عبر البريد، أو شخصياً إذا تعذّر أمر البريد، أو عبر البريد الإلكترونيّ الذي يستخدمه عمليا الوزراء وموظفوهم كل لحظة.
فجأة يدرك المرء، عبر تجربة شخصية، مثل تجاربنا مع وزارة التعليم العالي، البعد العام، غير الشخصيّ لمسألة (الشفاهيّ) و(المكتوب) في راهن الدولة العراقية. وهي مسألة ما زالت تشتغل على نطاق واسع في الفضاءات العامة والمدنية.
وللطرفة أروى التالي: في محاولة لإجابتي على اعتراضات مكتوبة، وإصراري على إجابتي بطريقة مكتوبة، حاول أحد موظفي الدولة الاتصال بي عبر النيت، وفتح أمامي صفحة (التشات)، كأننا أمام أمر عائليّ أو غراميّ. كان يتهرّب ببراعة من المكتوب. هنا أعلى درجات السوريالية في إدارة الدولة.
لعل الإلحاح وتوطين (الشفاهيّ) في شؤون الدولة تعبير عن بيروقراطية الإدارة، بل عن كسل الموظفين الذين يعتقدون بأنهم سيضيفون لأنفسهم مهام (كتابية) جديدة إضافة إلى مهامهم الروتينية. يغدو الشفاهيّ هنا ممرّاً سهلاً للتهرّب من أداء الواجب الوظيفيّ، أو جهلاً به.
في يقيني يجب أن تتضمن أيّة ورقة للإصلاحات الحكومية إلغاء التعامل عبر (الشفاهيّ) في التعاطي مع قضايا المواطنين وشكاويهم وبأي قضية، وتثبيت مبدأ الردود (المكتوبة).
الجماعة يخافون المكتوب - الوثيقة، ويعشقون الشفاهيّ - الغنائيّ، وفي ذلك دلالة لا تخفى على اللبيب.
(الشفاهيّ) و(المكتوب)
نشر في: 28 أغسطس, 2015: 09:01 م