(2–4)
تسعى النافدة مرات أخرى إلى تقديم (نظام العالم) المرئيّ عبر ضلفتيها وتُرِيْنا تناسقه وترتيبه.
لو تقدّمنا في الزمن قليلاُ، نحو عام 1618 الذي رسم فيه بروغل الأب 1568-1625 لوحته (حاسة السمع) أو (مرموزة السمع) المحفوظة في متحف البرادو، مدريد، وهي من مجموعة لوحات مُكرّسة للحواس الخمس، لتوقفنا أمام هذا السؤال: ما علاقة حاسة السمع بالنافذة وبالمنظر الخارجيّ المرئيّ عبرها؟. السمع هو ترميز للهارمونية التي وقع دائماً الاعتقاد أنها تتجلى أول ما تتجلى في الطبيعة. الآلات الموسيقية المتنوّعة في داخل البناية هي رديف للأصوات المتنوعة خارجها. عري السيدة والطفل الذي يُصغي إليها رديف للعري الطبيعيّ الذي يصغي لنفسه، لهفيفه ومياهه. النافذة تنافُذٌ صريح بين هارمونتين وعُرْيين مجازيين. من هنا اعتبرت اللوحة عن جدارة مرموزة allégorie = حكاية رمزية بالمعنى البلاغيّ، الشعريّ والتصويريّ. وقد قيل غالباً إن وظيفة النافذة في هذه اللوحة ليست سوى تنظيم بناء اللوحة عمودياً وأفقياً لكي تستقرّ المرموزة وتتضح بأعلى أشكالها.
عبر اتساع وكِبَر نافذة الرسّام بروغل يدخل العالم الخارجيّ إلى دواخلنا، ويصير جزءاً من المشهد الداخليّ فينا، ممتداً إليه متحداً به مندغماً به.
في سلسلة الأعمال التي كرّسها بروغل للحواس يكمن إدراك أوروبيّ عام مستجدّ بالعالم الموضوعيّ في عصره، إذ جرى تقسيمه إلى مجالات وظيفية متعددة تُعبّر الحواس عنها. وفيها كلها تظهر نزعة استهلاك جنينية للسلع الكمالية، وبالتالي ظهور مفهوم الاستمتاع بملذات الطبيعة، وكلها تَظْهر عبر لذة العُري ونشوته، لتكتمل أبعاد المرموزة من جميع الجوانب. كما أن الصور المعلقة على جدار الغرفة تشير إلى لذة الموسيقى، أي السمع المتناغم، فهي تصوّر حفل الأرباب وترينا خاصة الربّ أورفيوس وهو يروّض الحيوانات البرية بموسيقاه.
النافذة تُماهِي هذا العالم الجديد مع الطبيعة التي تبدو خلفية لهذه المفاهيم.
العالم الخارجيّ يُضيء، حرفياً ومجازياً، العالم الداخليّ، عبر النافذة. وهذه، حسب رأيي، فكرة رئيسية في الكثير من أعمال الهولندي فيرميير. لنأخذ لوحته المحفوظة في (رواق الأساتذة القدامى) بمدينة درسدن "قارئة عند الشبّاك" التي رسمها نحو العام 1657 وتُعتبر من أعمال شبابه.
رغم أن فيرميير برسم فضاءً داخل منزل، فإنه يضعه بعلاقة حيوية قلقة مع الفضاء الخارجيّ. الحميمية الداخلية وقع تشفيرها عبر اختيار المكان واختيار شخصية وحيدة موضوعة في مركز اللوحة بخلفية فارغة. وقد عَمَّق هذه العزلة الداخلية التكوين العموديّ العالي للوحة وتوازي قامة المرأة مع النافذة.
الرسالة المقروءة في الداخل كانت قد وصلت من الخارج، وجميع مشاعر المرأة الداخلية، النفسية، وهي تقرأ الرسالة موصولة لذلك بهذا الخارج. لقد اُقْتُرِح بأن تُفسّر الرسالة على أنها تعبير عن أفكار المتلقي والمُشاهِد للوحة، وهذا أيضاً يقف في الخارج. كما فُسّر انفتاح النافذة أشدّ الانفتاح على مصراعيها بأنه ترميز لمحاولة هروب هذه الشابة من الداخل الضيّق المُحاصِر إلى الخارج الرحب الحرّ، حيث يَعتقد مؤرخو الفن بأن الأمر قد يتعلق برسالة حب وصلتها من حبيبها أو زوجها الغائب في حروب هولندا يومها وتجاراتها مع جزر الهند الشرقية.
هذه اللوحة هي استعارة صارخة لقطبي الحضور – الغياب الذي تلعب النافذة، عن جدارة، دوراً أساسياً بإبرازه بل تصعيده.
مفهوم التنافـُذ تشكيليّاً
نشر في: 18 سبتمبر, 2015: 09:01 م
يحدث الآن
انتخابات 2025 على صفيح ساخن.. ما الذي يُخفيه "الصدر" ويُقلق "الإطار"؟!
التوافق المؤجل يطيل أمد قانون الحشد.. ترقب لاستئناف البرلمان أعماله
نقابة الطب التكميلي تطالب البرلمان بتشريع قانون خاص لتنظيم عملها
التغير المناخي يجبر أكثر من 23 ألف عائلة عراقية على النزوح خلال 2024
منتديات شبابية تحت رعاية الحكومة.. أداة لتفعيل دور الشباب أم وسيلة للتجنيد السياسي؟
الأكثر قراءة
الرأي

الاحتجاجات الشعبية الأخيرة في أميركا: أزمة هوية سياسية وإعادة تشكيل العلاقة بين الدولة والمواطن
محمد علي الحيدري في الخامس من أبريل 2025، تحولت شوارع أميركا إلى ساحات لاحتجاجات واسعة، انطلقت من نيويورك إلى لوس أنجلوس، حيث هتف المتظاهرون ضد السياسات الاقتصادية والإدارية التي يتبناها الرئيس دونالد ترامب. ومع...