(5– 8)
ما هي النافذة في لوحة سلفادور دالي الشهيرة المعنونة "فتاة تقف عند النافذة" المرسومة على ورق مقوّى عام 1925. وتمثل شقيقة الرسّام، آنا ماريا، مرئية من الخلف، والمحفوظة في متحف الملكة صوفيا. مدريد؟ لنقل منذ البدء أن دالي رسم شقيقته في العديد من لوحاته حتى يوم لقائه بزوجته غالا، فقدّم رسومات لشعرها وكتفها المُعرّاة.
قيل غالباً إن فتاة دالي تقودنا إلى المنظر الطبيعيّ الذي تتطلع إليه، وأن دالي يستخدم لوحة داخل اللوحة، فالنافذة تلعب دور إطار ثانٍ مُدْمَج في الإطار الأول، وأن الفتاة تدعونا لاستحسان المشهد، وأن المنظر الطبيعيّ ليس مفصولاً عن بقية أجزاء اللوحة، ولكنه مربوط بالشخص الذي ينظر إليه.
هل يكتفي المرء بهكذا تأويل للوحةٍ طالما أحبّها جمهور عريض لم يتطلع، ببساطة، إلى الطبيعة التي كانت تتطلع إليها الفتاة، بل كان ينظر إلى ردفيها المثيرين؟
دالي السورياليّ لم يكن من المتولّهين العشّاق للطبيعة التي وجد فيها روحاً رومانسية هشة انتقدها مثلما فعل أقرانه السورياليون، ولم يكن من أنصار عظمة الرب المتجلية في الطبيعة كما كان يفعل الألمانيّ الرومانتيكيّ غاسبار دافيد فريديريش. دالي لا يدفعنا لرؤية الطبيعة عبر الفتاة، إنما، وبكل وضوح، رؤية ردفي الفتاة بهذه الذريعة الطبيعية الممتازة، لذا قد تكون اللوحة رداً ساخراً متأخراً على لوحة غاسبار دافيد فريديريش. أن تكون الفتاة شقيقته، سؤال آخر لا نستطيع الإجابة عليه.
في هذه القراءة تغدو لوحة دالي تهكّماً وطرفة بشأن من تتأمل الطبيعة، عبر نافذتها، حالمةً على طريقته الخاصة، بينما نحن نتأمل مفاتنها الجسدية عبر نافذتنا على طريقتنا. الجميع يتأمل الجميع عبر نافذة ما.
لو انحنى أحد على نوافذ رينيه ماغريت 1898-1967، لكتب أغلب الظنّ عملاً واسعاً. سنتناول لوحة واحدة تمسّ من قريب، كما نعتقد، مقاربة التنافذ وفق رؤيته الذاتية، هي لوحته "مفتاح المغاليق" عام 1936، المحفوظة في مدريد (متحف ثياسين- بوميميزا).
تختلف مخيَّلة السورياليّ مرغريت عن السورياليّ دالي بأنها أكثر انتباهاً إلى الطبيعة التي ستدخل من أوسع الأبواب عالمه الغرائبيّ لكن بأقلّ العناصر منها وأكثرها تقشُّفاً: حديقة بسيطة، غيمة، طائر... الخ. النافذة التي تنفتح على الحقل في هذه اللوحة، لكن الزجاج المتكسر الساقط في الداخل ما زال يحمل آثار مشهد الحقل عينه في الخارج، فهل كانت النافذة تُطِلّ على المشهد أم أنها كانت تخفيه؟
يعارض مارغريت التقاليد التشكيلية السائدة منذ عصر النهضة التي تعتبر الفن "نافذة على الطبيعة"، وأن على الفن محاكاتها بأمانة. وقد شكّك بهذه الفكرة، ولعله من أوائل من سعى، في الرسم الحديث، لتأويل فكرة التمثيل représentationعلى أنها نسخة من طبيعة أخرى غير طبيعة الأشياء الموضوعية، وأن الأشياء المرسومة ليست حقيقة الأشياء الموجودة في الواقع الموضوعيّ، عبر لوحته الشهيرة "هذا ليس غليوناً"، وكان يريد القول إنه محض رسْمٍ إيهاميّ للغليون الحقيقيّ. ثمة في تقديره استحالة لرؤية العالم عبر قماش النافذة – اللوحة ثنائية الأبعاد لتلمُّس العالم الحقيقي ثلاثيّ الأبعاد.
في هذه اللوحة كان يودّ البرهان أن الفن لا يستطيع أن يُرينا حقاً جمال الطبيعة. لقد استخدم ماغريت على الدوام إطار النافذة كإشارة إلى (وَهْمِ الحواس)، بل سنقول إلى الوَهْمِ الشامل بين الداخل والخارج. النافذة موضع مناسب لإظهار هذا التوهُّم، وزجاج النافذة وليس القماش هو الحامل المثاليّ للأوهام.
التنافذ والحالة هذه مستحيل تقريباً، أو أنه يتمّ على مستوى مُتوهَّم. لذا أليس من المعقول القول إن رينيه ماغريت أقرب للوجودية مما إلى أي تيّار فكريّ آخر، ولو كان هناك مذهب وجوديّ في فن الرسم لكان ماغريت في طليعته.
مفهوم التنافذ تشكيليّاً
نشر في: 6 نوفمبر, 2015: 09:01 م