(8– 8)
بمعنى ودلالات التنافُذ الرصينة المذكورة فيما سبق، أين هذا المفهوم في التشكيل العربيّ المعاصر، أين النافذة وفق هذا المفهوم، أين العين النافذة؟.قد لا نكون مُطّلعين بما فيه الكفاية لمعرفة "بحث تشكيليّ عربيّ" ينحني على النافذة وفق مفهوم التعالق المعقّد بين الداخل والخارج، الظاهر والباطن، المرئيّ والمرئي، بين الجوانيّ والظاهريّ وبين تداخُل العوالم النفسية والواقع الموضوعيّ عبر تنافُذ مركّب كالذي بحثه الفنانون الأوربيون في لوحاتهم التي تتمسك بالنافذة كتعلّةٍ لذاك التداخُل مُولِّد المعاني المتكاثرة.لعلنا نجد النافذة كثيراً في التشكيل العربيّ الحديث، رغم ذلك، منذ بداياته وحتى اليوم، خاصةً في البلدان العربية حديثة النشوء، لكنها بوصفها مفردة تراثية، محلية، فلكلورية، تزيينية، دالّة على الهوية المعمارية، مفردة مُبْهِجة في المقام الأول، لا عيناً عميقة تُطِلّ، ولا شُباكاً بوّاحاً يَهْذي، ولا اختصاراً لتشابك الداخليّ والخارجيّ أو التباسهما.يختصر عرض صحفيّ مصريّ كُتِبَ بمناسبة معرض لأربع فتيات مصريات قررن أن يقمن معرضاً، بداية عام 2015، عن فكرة الشبابيك فى المجتمع المصرىّ وما تثيره من ذكريات، مجمل تصورات التشكيل العربي الحديث والمعاصر عن الموضوع، يبدأ العرض بالاستشهاد بكلمات أغنيةٍ لمحمد منير تقول "شبابيك.. دنيا كلها شبابيك، والحكاية والسهر والحواديت". يبدو أن الفتيات يختصرن مجمل الموقف من النافذة في تشكيلنا بصفتها "وسيلة لتمثيل تفاصيل الحياة اليومية" أو أنها "لا تقل عن الهندسة المعمارية لمناطق تاريخية كخان الخليلي"، وفي أحسن الحالات " محاولة لرؤية الجمال الكامن داخل القبح المنتشر حولنا، والذي صار واقعاً لا يمكن إنكاره".
العودة في هذا المقام، إلى مفردات أغنية محمد منير الجميلة، وليس إلى قصيدة السيّاب مثلاً (شبّاك وفيقة) ذات دلالة لجهة التناوُل الخارجيّ للشباك في الأغنية، والتداعيات الروحيّة والنفسيّة لقصيدة السياب بشأن الموضوع نفسه. ولن أتحدث عن قصيدة ريلكه الشهيرة (نوافذ) فهي تتماس مع قصيدة السياب، ويُظْهران كلاهما بوناً شاسعاً بين تناول التشكيل العربيّ ثيمة النافذة ومفهوم التنافذ، ومعالجتيهما.
لا نستطيع التعميم المطلق عن غياب معالجة للتنافذ في تشكيلنا العربي، وفي الأقلّ يتوجب الانتباه لفنانة مثل الفلسطينية منى حاطوم التي قدّمتْ مثلاً في عملها (12 نافذة)، أنستليشن من عام 2013- 2014 تصوراً مغايراً. لا أثر للنافذة المعروفة، وبدلها نجد اثنتي عشرة قطعة نسيج فلسطينيّ مُعلّقة على التوالي وسط الصالة، كل قطعة بمقاس متر مربع تحمل تطريزاً فلسطينياً تقليدياً. لا أثر للانطباع الفلكلوريّ المألوف رغم أنها تستدعيه بقوة، لا نافذة حقيقة، إذ تتحول كل قطعة إلى مجاز قويّ ندرك مغزاه منذ الوهلة الأولى. نافذة مجازية محض، تُطِلّ على إرثٍ وثقافةٍ معروفين بأسلوب ملتوٍ، يكاد يكون طرفوياً قدر ما هو مأساويّ. إعادة استشهاد بالأمرين: النافذة الغائبة إلا بالحجم المربع للقطع المزركشة، والهمّ الوجوديّ المتعلّق بالأرض الغائب بدوره إلا بدلالة التطريز الذي يُحيل طرفوياً إلى بلد نعرفه.قبل ذلك قدّمتْ حاطوم (بين 1993-1999) حرفياً الكوفية الفلسطينية، بطريقة يمكن أن تُقرأ على أنه نافذة. لقد عَلّقتْ الكوفية على الحائط، وفق تنويعات عدة مبتكرة، حتى بدتْ في أكثر من واحد منها وكأنها نافذة ذات إطار مزدوج محدّد بوضوح شديد، وأحاطتها في تنويع آخر بخصلات شعر آدمية مرهفة أضفتْ بدورها على العمل المزيد من التوتر البلاستيكيّ. هذه الكوفية – النافذة تنغمر برؤية عالمٍ ما عبر الأشكال الهندسية المكررة المعروفة على الكوفية التقليدية: ما نراه عبر التشبيكات تلك ليس العالم الجميل قطّ، لأنها قد تحولت بالأحرى إلى نوع من موانع للرؤية إذا لم نقل إنها تحولت إلى قضبان.نوافذ منى حاطوم ليست من طبيعة النوافذ المحلية التي تُشبع فضولاً "أكزوتيكياً عربياً"، كأن بعض العرب يتحوّل إلى مستشرِق مبهور حال رؤيته إرثه البصريّ مرسوماً على لوحة. نوافذها بحث جماليّ في معنى التنافذ.
منى حاطوم، كوفية.
منى حاطوم، كوفية.
مفهوم التنافذ تشكيليّاً
نشر في: 4 ديسمبر, 2015: 09:01 م