نودّ هنا تقديم ملاحظات عن (ثقافة الصورة) في الثقافة العراقية المعاصرة، وهي ملاحظات طالعة من تجربة بالأحرى، شخصية وجماعية، ومن تأويل آخر للفكرة الثابتة القائلة إن ثقافة البصريّ والمبصور، والتشكيليّ برمته، إنما هي عميقة ورصينة وعارفة وثابتة الجذور في ثقافة العراق ولدى الفئة التي نسميها عادة بالمثقفين.
برهن مشروع (المتحف الفوتوغرافي الافتراضي) متواضع الخطوات والإمكانيات على أمور أخرى، لعلها تتفارق مع تلك الفكرة الثابتة، بل تتناقض معها حتى الآن.كنا نقول لأنفسنا ونحن ننشر ونجهد بتجميع إرث العراق الفوتوغرافيّ في مشروع المتحف، بأننا كمن يبكي على طلل، واقفاً مستوفزاً، ونحن نرى كثرة المتفرّجين مع قلة المتفاعلين. هل نبكي على طلل دَرَسٍ؟. أملنا أن لا. أملنا العميق.استحضرنا الطلل، وفي الذهن بيت أبي نواس الساخر: "قُلْ لمنْ يبْكي على رَسْمٍ دَرَسْ - واقـفـاً ، مـا ضَرّ لو كـان جلــسْ". وفي ذلك نقد ساخر لبعض ثقافة العراق المعاصر البصرية المرئية التي لا تبدو صارمة إلا لدى ثلة لا تتجاوز العشرين أو الثلاثين شخصاً على الأكثر. وهذا ما يمكن تعميمه على العالم العربي باحتراس. مبالغة؟ إفراط؟ تعالٍ؟ جهل بالحقائق؟ تفسير أحادي الجانب، ظالم؟. على أحد غيرنا تقديم إجابة ممنهجة عن العلاقة الفعلية لجمهور عريض راهن بثقافة الصورة.الحصيلة من دون رتوش أن كثيراً من معاصرينا ثقافتهم البصرية الفوتوغرافية هي أكزوتيكية، فولكورية، ذات طابع من الحنين الهشّ وعدم التوقف أمام التفاصيل وشروط الصورة ومعجمها وإيحاءاتها. هذا هو استنتاجنا بوضوح، ليس انطلاقاً من هذا المشروع، وإنما أيضا من آلاف الدلائل الأخرى. استنتاج سبقنا إليه النص القرآني (أفلا تبصرون). إقران حاسة (البصر) اشتقاقيا بـ (البصيرة) درس يحتاج تأملاً نقدياً ينطبق علي كثرة منا أولهم كاتب هذه السطور.لا تتوقف الصورة الفوتوغرافية القديمة عند تقديم وثيقة، وهي لا تثير الحنين فقط (كما تفعل عند جمهرة من متلقينا الأفاضل)، إن دروس التغيُّر العمرانيّ والبشريّ وملاحظة التحولات البنيوية في المجتمع تكاد نغيب لصالح ذلك الحنين الطاغي، العاطفيّ. لقد استطعنا التأكد، عبر الصورة، من صدقية إحدى الفرضيات التي ندافع عنها وهي أن فكرتَيْ (الحداثة) و(التحديث) قد دخلتا إلى العالم العربي عبر الطريق التركيّ أولاً، قبل الطريق الأوربيّ الذي كانت الدولة العثمانية وسلفها الجمهوريّ الأول يقلّدانها. ينطبق الأمر على فن الرسم وعلى الأزياء وقص الشعر. ثمة صورة تقدّم مثلاً ترويجاً لقص الشعر النسائيّ القصير، وقد نُشرتْ في الصحافة التركية في الأول من أيلول 1919، وفيها نلاحظ أن الحرف ما زال عربياً في تركيا. هذه إذن ليست وثيقة، إنما برهاناً معرفياً.لعل وجود مثل هذا المتحف المتواضع على النيت هو الذي يُخفّف من شأن المعرفة المقالة، مداوَرَةً، في الصورة لصالح الحنين. فإننا نعرف بالتجربة نفسها أن وسائط التواصل الاجتماعيّ تُخفّف كثيراً من تواصُل المتلقين العرب بينهم، خلاف ما يُعتقد عادة، حيث لا نقرأ إلا لأنفسنا ولا نرى سوى ما نرغب به.علينا أن نستعيد على عجل ما قلناه هنا سابقاً بأن فكرة (المتحف الفوتوغرافي الافتراضي) هي جهد أرشيفي يستهدف تاريخ الاجتماعي والسياسي والعمراني للبلد عبر الصورة الفوتوغرافية. ما زال تاريخ العراق البَصَرِي حكراً على قلة من المكتبات الخاصة وجامعي الصور والأرشيفات الصحفية المحلية والمكتبات العالمية، وأن هناك ضرورة لفتح الألبومات العائلية العراقية أو بعض ما تنطوي عليه لجميع الناس، بعد مضي هذه الفترة الطويلة. جامعو الصور يبخلون على عامة الناس، بينما الأرشيفات العائلية مغلقة إلى حد بعيد ومثلها المكتبات العالمية التي تحتاج إلى جهد من أجل استخراج كنوزها الفوتوغرافية.نحسب أن متحفا حقيقيا (بناية) للصورة الفوتوغرافية القديمة، وليس متحفاً افتراضيا، يستطيع إلغاء الالتباس وتقريب الحنين الذاتيّ من المعرفة الموضوعية.
المتحف الفوتوغرافي الافتراضي: المعرفة والحنين
نشر في: 25 ديسمبر, 2015: 09:01 م