كتب لي فنان تشكيليّ صديق متسائلاً عن المرادف العربيّ للتعبير الفرنسيّ (mise en abîme)، علماً بأنه قضى وقتاً طويلا في باريس، وهو يقوم الآن بالتدريس في أربيل. ما أصعبه من سؤال وما أسهله، فالعودة إلى الترجمات المباشرة أو مقاربتها بمصطلحات مشابهة الصيغة (مثل mise en question = المساءلة أو التشكُّك) قد تجعلنا نظنّ أن تعبيرنا الحالي يعني الوقوف على الهاوية، التأرجح على الشفير. وتساءل الصديق فيما إذا كان المصطلح الذي استخدمتُه مراراً (التنافذ) ممكناً لترجمة ذاك التعبير، وفيما كنتُ أقصد بالتنافذ دلالة (التثاقف). وأحسب الصديق الفنان كان يرغب بالدلالة التشكيليّة للتعبير الفرنسيّ المذكور، وهنا تشير تعريفات التعبير إلى أنه يدلّ على تقنية إدماج عمل [فنيّ] في داخل عمل آخر من النوع نفسه. وهو ما نعرفه في سيميائيات الصورة: في الملصقات (السينمائية مثلاً) حيث صورة أو عدة صور مدموجة في صورة أخرى كبيرة، وما نعرفه على شاشات التلفزيون بالصيغة الإدماجية ذاتها، وفي الملصقات الدعائية السياحية، وفي ضروب فنية كثيرة.التعبير الفرنسيّ قادم من علم البصريات وهو إجراء في علم الهندسة يستدعي تأثير المنظور المستمر على حاجة واحدة. الأخيرة يتمّ وضع نسختها بحجم أصغر بعدها أو فيها، ثم وضع نسخة الأخيرة بالأسلوب نفسه، وهلمّ جراً، وصولاً لخلق تشوّه لانهائيّ.
لقد جاء التعبير من الهندسة واستخدم في الفن والأدب. لقد ترجمتُ التعبير غالباً بـ (التطعيم Incrustation)، أو الترصيع، فالمفردة الأخيرة مشتقة من النجارة والصياغة، كأن نطعّم أو نرصّع طاولة بأنواع أخرى من الخشب والأصداف. والتطعيم أشمل لأنه يمتد إلى حقول أخرى كالزراعة والطب بالمعنى نفسه. في تونس يقال للتطعيم الزراعيّ تلقيماً.وبعيداً عن السؤال الأصليّ للصديق، بل من أجل ألقاء الضوء عليه، رحنا نناقش مصطلحي (التنافذ) و(التثاقف) وكتبناهما بالفرنسية لمزيد من الوضوح. ونسينا أن نقول إن التنافذ هو صيغة كنائية عن الإطلالات الممكنة على العالم وخاصة التداخُل بين العوالم، بينما التثاقُف هو أقرب إلى المبادلات الواقعة بين الثقافات أو هو التشبُّع، التأثر بثقافة أخرى كأنه من نوع من التناصّ عفوياً أو محتّماً. ولعلنا توصلنا إلى عدم وجودة علاقة مباشرة للمصطلحين بالتعبير الفرنسيّ.واعترض صديقي، محقاً في مكان ما، في أننا لا بدّ من أن نجد صيغة من كلمتين لهذا المفهوم وليس كلمة واحدة، على أساس أنَّ في (التطعيم) أو الترصيع شيء من الثبات والجمود، بينما يمتلك التعبير الفرنسي ديناميكية وسبراً مستمراً للعمق. ورأى أن التطعيم يشير إلى ملء لحفرة أو وضع في حفرة مسبقة، بينما الفرنسيّ لا يسدّ عمقاً بل ينفتح على عمق جديد، وخاصة أن له، في فن الرسم والتصوير الفوتوغرافيّ، أبعاداً تتجاوز الترصيع الشكليّ، وأنه يمثل في الفنون البصرية نوعاً من الأداء، إذ في الرسم التجريدي عندما يأخذ الفنان جزءاً من لوحة ويقوم انطلاقا منه بإنشاء عمل كبير جديد، ثم يأخذ من هذا العمل الجديد جزءاً صغيراً آخر ويكبّره، فنحن أمام المعنى الفرنسيّ عينه بصفته ظاهرة أو نمطاً أدائياً. ورأى أنه في الأدب والسينما لا يشكّل فقط ضرباً من التداعي.
وأخشى أن الصديق المدقّق، لا يميل إلى التفريق بين المعنى الحرفيّ للتعبير واستخداماته الاستعارية. ففي الأدب لا يتفارق معنى التعبير الأصلي عن معناه في الفن: أن نضع في داخل عمل أصلي (سرد، مسرحية) عملاً آخر يستعيد بدرجات من الأمانة أفعال ومواضيع الأصليّ، مسرحية هاملت شاهد على ذلك. ومثل ذلك كثير في الفنون التشكيلية منذ جيوتو.
من جهة أخرى ، هناك بعض من (التشابُه الذاتيّ autosimilarité) ومن (الاستدعاء الذاتيّ récursivité) في التطعيم دون أن يكون التطعيمُ الأمْرَيْن المذكورين نفسيهما بالضبط، لأن الناتج البصريّ الأخير هو عمل مختلف.يبقى التساؤل عن سرّ وجود مفردة الهاوية في صلب هذا التعبير؟ اكتبِ التعبيرَ في غوغل وانظرِ الصورَ التي ستخرج لك، ستعرف بنفسك.
المصطلحات الفنية الإشكالية: مسألة إدراك مُرَكّب
نشر في: 8 يناير, 2016: 09:01 م