يقوم مشروع الفيلسوف غاستون باشلار الجوهريّ على استنطاق العناصر الأربعة (ويقال لها أيضاً الأيونات أو الأسطقسات وهي التراب والماء والهواء والنار) وكان العرب قد استعاروها كلها من الإغريق.
قام باشلار بتحليل الكثير من النصوص الشعرية، وبعض الروايات الشعرية، المتعلقة بأحلام المنازل لكي يبرهن أن للفضاء طابعاً ذاتياً، ضمن منهجيته الظاهراتية: قصدية الوعي، حيث لا يوجد موضوع دون ذات. يلعب الخيال دوراً أساسياً في ذلك، يسميه باشلار (بالخيال الماديّl’imagination matérielle ) الذي يتركز على عناصر الديمومة في الأشياء: "الصور المباشرة للمادة" كما يقول ، التي وَجَدَ في النصوص الشعرية أفضل التعبيرات عنها. ما هو الخيال الماديّ؟.انه الخيال الذي يمنح الأصل الماديّ حياةً. يتمُّ ذلك عبر عمل شعريّ، بل عبر الشعرية- وهي فعل ذاتيّ- التي تقوم بجعل ما هو غير حسيّ حسياً، وتبعث حيواتٍ جديدة، فعلية تقريباً في الأشياء والموجودات الجامدة والكينونة الصغيرة والكبيرة. خير البراهين على الصور الذاتية المادية تتجلى، وفق باشلار، في كيفية معالجة الشعراء والروائيين لتلك العناصر الأربعة. ولم تفته الحجارة، فهو القائل "عندما يضرب الحزن الحجارة سوف يكون الكون كله أخرسا"، والمنبّه إلى أبيات لوي جوليم: "طويلاً بنيتك أيها البيت/مع كل ذكري أحمل الحجارة/من الأرض حتى أعلي جدرانك/ ورأيت سطحك يصقله الزمن/ متغيراً كالبحر" (ترجمة غالب هلسا).
وفي الحقيقة لم يتوقف باشلار حصراً عند شعرية الحجر وإنْ مر عليه في سياق مشروعه كثيراً. ولعله لم يتوقف عند قصائد بوشكين وبايرون وهاينه المخصصة للحجارة المفضلة لديهم. وقد كان بوشكين من المتولّهين الكبار بالحجر الكريم، معتقداً أنه يجلب الحظ السعيد كالتمائم بالضبط.
هذه الشعرية تجد لها أوسع مكان في الشعر العربيّ منذ بداياته حتى يومنا. قال ذو الرمة: (عشيَّة َ ما لي حيلة ٌ غيرَ أنَّني - بِلَقْطِ الْحَصى وَالخَطِّ فِي التُّرْبِ مُولَعُ)، وقال تميم بن مقبل: (ما أطيبَ العيشَ لو أن الفتى حجرٌ تنبو الحوادثُ عنهُ وهو ملمومُ)، وقال المتنبي: (أصخرة أنا مالي لا تحرّكني - هذي المدام ولا هذي الأغاريد)، وقال عمرو بن براق: (فلو أن ما بي بالحصى فلق الحصى - وبالريح لم يُسمع لهنَّ هُبوبُ)، وقال إيليا أبو ماضي في قصيدته "الحجر الصغير" (كان ذاك الأنين من حجر في السد- يشكو المقادير العمياء) وأيضاً (حجر أغبر أنا وحقير - جمالاً، لا حكمة، لا مضاء).
في الشعر العربيّ، يتخذ الحجر والحصى دالة التصلّب والموات والقسوة، لكن حالما نستدير لحجر كريم تتفتت هذه الدالة، ويصير الصلب دليلاً على جمال كامن ورخاء وإشعاع غامض وأبهة عصية يستوي بذلك العامة والخاصة من الناس.
قال محدثي، غامزاً ساخراً مني، بأن الحجر حاضر بطريقة وسواسية في عناوين مجموعتيّ (أصابع الحجر) و(الحجر الصقليّ) فكيف توضح ذلك؟. فلم أحر جواباً مقنعا يومها، حتى عرفتُ واعياً أن الحجر ينتمي في النهاية إلى العناصر الأربعة. الحجر هو التراب وقد تصلّب، أو الصلابة الزائفة. كان يُشار للعنصر الترابيّ بأنه من قِوَى النفس، وكان يُقال إن أصل الكون تراب وإن النار تغلب التراب. ولعل العودة للحجر في أيما شعر عربيّ، قديم ومعاصر، ليس عرضاً بل هو جوهرٌ، لأنه محاولة لتفكيك الهشّ في الروح الذي اتخذ ظاهراً صلباً. لعل استحضار الحجر يطابق نزعة العودة إلى الأصول في الوجود والتنقيب بالشامل والكونيّ، انطلاقاً من مزاج ناريّ في البدء، يتضح فيما بعد أنه ترابيّ في الحقيقة لو صحت لنا العودة لهذه المفاهيم، كما فعل الفينومينولوجي باشلار.
الحجارة عنصراً شعرياً
نشر في: 22 يناير, 2016: 09:01 م