كنّا، ونحن نستنزف قوانا للإطاحة بالأنظمة السالفة - لم يعد مفهوماً تسميتها بغير ذلك لتزايد التشبيهات بين ماضي الأحوال وحاضرها من حيث السمات البارزة - نتطلع الى القادم من الأيام بتفاؤلٍ ورجاءٍ، لما تشكله من صورة مستقبلٍ واعدٍ، وحياة تحتضن الجديد المختل
كنّا، ونحن نستنزف قوانا للإطاحة بالأنظمة السالفة
- لم يعد مفهوماً تسميتها بغير ذلك لتزايد التشبيهات بين ماضي الأحوال وحاضرها من حيث السمات البارزة - نتطلع الى القادم من الأيام بتفاؤلٍ ورجاءٍ، لما تشكله من صورة مستقبلٍ واعدٍ، وحياة تحتضن الجديد المختلف، بما تزجيه لنا العلوم واكتشافاتها التي غيّرت، بين ما غيّرت، كل أنماط الحياة الاجتماعية اليومية للناس وظروف معيشتهم وشروطها ومتطلبات الرفاهية.
والمستقبل، بالنسبة لنا، كان يعني اللحاق بالأمم المزدهرة ومحاكاة المنجزات المتحققة في مجتمعاتها والتفاعل مع قيمها الحضارية، التي لا تلغي هويتنا، ووظيفة هذا الإستدراك هي طمأنة من يشككون بأن الحديث عن الحضارة الإنسانية لا يعني بالنسبة لهم سوى "محاكاة ما يتنافى مع تقاليدنا"!
ومنذ أن تحقق لشعبنا التغيير الذي ظل مؤجلاً لعقود، تعثرت الآمال وظلت تتدحرج لتأتي على كل ما كنا نضعه في خانة المستقبل من وعدٍ جميلٍ مبهر، وليصبح الماضي العميق البالغ في قدمه محط الأماني والرجاء، يُشغل في ذاكرتنا وأقلامنا وأحاديثنا أسماً أثيراً :
"الماضي الجميل'!.. نتهجى مفرداته، بطقوس الحياة الأجتماعية يومذاك، والمباني الأليفة والشوارع المزدهية بنفسها. وتتسع قائمة الماضي الجميل لتضم رشاقة شارع الرشيد وشارع النهر والكفاح والجمهورية والسعدون والمتنبي والأسواق المكتظة بتلاوين البشر والبضائع، وضجيج الحياة الواعدة في الشورجة والسراي وسوق الصفافير وسوق الغزل ومقاهي الشابندر والزهاوي وعارف آغا والبرلمان والبرازيلية وحسن عجمي ولوكارنو والمربعة ومقهي العباقرة أو "المعقدين"، وسينمات روكسي والزوراء وغرناطة والوطني والنصر، ومسرح بغداد ومسرح الستين كرسي، ومسرح قاعة الخلد، وقاعة المسرح القومي )كرادة مريم(، ومكتبات المثنى والعصرية والنهضة ومكنزي وكورونيت والصداقة، والمراكز الثقافية المشهورة ببغداد، كالبريطاني والسوفيتي والإسباني وغوته.
كنا في ذاك الزمن الجميل، الموغل في القدم، ننتظر بلهفة موسم الزيارات الحسينية وعاشوراء، لننغمر بحواسنا ومشاعرنا في طقوسها مع أهالينا وجيراننا. لم تكن طقوسها حكراً على أبناء الطائفة وحدهم، بل تتشارك معهم أسر الطوائف الأخرى دون تمييزٍ، بل، ويا للمفارقة، انني أتذكر الآن جورج وأوديشو وسيمون وسارة يتدافعون معنا كما لو أنهم يمارسون طقوساً كنسية..!
وهل كان للسجن طعم ذلك الماضي..؟
وأي طعم..! فكل عوائل السجناء بغض النظر عن خلفياتهم السياسية او الدينية او المذهبية يفترشون الأرض ويتقاسمون ما جادت به عوائل السجناء من طعام وفاكهة ويتبادلون التمنيات بقرب الفرج..!
لم يكن التعذيب مختلفاً عن طقوس ذلك العصر الذهبي.. المهم ان القتل بالتعذيب والموت بالرصاص في المظاهرات كانت تودي بالحكومة الى السقوط...
ماذا بقي لنا من مظاهر ذلك الماضي الجميل.؟
أي نحسٍ أطاح بها ليستبدلها بمظاهر الحزن "الكئيب" الملتفع بالسواد الكالح واللافتات المعلنة عن الموت اليومي الجماعي؟
حتى الموت في ذلك الزمن، كان له لون الموت الطبيعي. الموت في الزمن الجميل لم يكن قتلاً على الهوية، أو تقطيعاً للأوصال.. كان عزرائيل في الزمن الجميل "محافظاً" يغلب عليه التردد في الإتيان على قطف أعمارالشباب والفتيان، فهو في الغالب يسعى الى من بلغ من العمر عتيّا..!
وأياً كان عُمر الميت ودرجة قرباه، كان موته يضفي لمسة حزن مشوب بمشاعر التعاطف والرحمة والدعوة للآلِهِ بالصبر والسلوان، بينما أصبح الموت في هذا الزمن، دعوة لمزيدٍ من الموت، ونداءً لسفك مزيدٍ من الدم، وإشهاراً للإنتقام والنخوة العشائرية المتمادية خارج أي ردع إجتماعي أو سلطوي. ولتزايد التحديات وتكاثرها من حولنا، صارت طقوس الموت وأسبابها موضع رعايةٍ وتباهٍ وإحتضان. فالموت الوطني أصبح شفاعة، عليه تتوقف حماية حياض الوطن، وشبحه يرتسم على جدران البيوت والملصقات المنتشرة أينما وليّت وجهك يمنةً أو يسرةً، ولا مناص من مواجهتها مهما حاولت غض النظر. ويبدو أن عزرائيل قد تخلى عن تردده وهو يلتهم أرواحاً في غير أوانها لكثرة الأفدية المنذورة..
لم تعد الحال التي أُبتلينا فيها محط شكوانا نحن أبناء الردح بالماضي الجميل، فقد نقبل بالمقسوم الذي لفّعنا به ازلام المحاصصة والتمتع بمرأى الموت اليومي المجاني وفساد الذمم والضمائر، لكن ما يتهددنا هو ما يجرى التبشير به كل يوم، وما يكتب في الملصقات وعلى جدران بيوتنا من تجلياتٍ لها.
وليت الأمر ينتهي عند عدم جواز مصافحة المرأة وتحريم النظر الى "عوراتها"، وليته ينتهي عند تحريم الخمور والمنكر وزنى المحارم، فكل هذا يظل أرحم من البحث في ضمائرنا، والتلاعب بعقولنا ومكنونات قلوبنا وانتزاع الرهافة من شغافهما..
إن الحاضر يصير كل يوم عبئاً على وجودنا ككائناتٍ بشرية.. عبئاً على مصائرنا مجردة حتى من طبائعها الإنسانية وهي لم تتبلور حضارياً..
علينا أن لا نتماهى مع أحلامنا، وأن نتوقف عن المقارنة، ونزيح عن كواهلنا صور الماضي وننفي ما كان فيها من ألقٍ وجمال، فتهديد الحاضر الظلامي صار جاهزاً للإتيان على ذاكرتنا نفسه..
علينا أن نتواضع، ونتوقف عن إسترجاع الذكريات لإنها صارت تهديداً للحاضر وترويعاً للمروجين لقيمه وقيامته..
لنحفظ ذاكرتنا في مكانٍ خارج مكامنها العقلية، في منفىً لا تطاله عسس الضمائر والأفكار..
لقد حان أوان تجريف ذاكرتنا، لكي لا يظل لنا ما نحتمي به غير مشهد الأطلال وهي تحتفي بنا وتصيبنا بعمى الألوان.
يا له من ماضٍ جميل،لا يقبل التسوية، ولا يريد التواري..!
جميع التعليقات 3
خليلو...
خلاصة تغريدتك هذا اليوم تستحضر لنا صورتين اثنتين :أولاهما لألاء ماضينا وعنفوان حيويته، وثانيتهما موت حاضرنا وسقوط كل سمات الحضارة التي كان العراق يتبخر وهو يتغنى بها على السنة شعرائه وأدبائه ومغنيه وسائر مخلوقاته الجميلة . فهل لنا ان نحلم بالبعث بعد المو
ابو سجاد
يااستاذي العزيز الى متى نبقى نتغنى بالماضي ودوما نتذكره ونترحم عليه ونلعن الحاضر الم يكن الاجدر بنا ياسيدي الفاضل ان نقوم بتغيير حاضرنا ونجعله اجمل من ماضينا الى متى نبقى نركض الى الماضي دون الزحف الى الامام اليس هذا هروبا منا بعدم المواجهة هل سنبقى ها
Hassan Ali
بلاغة مابعدها بلاغة، ماهذه المشاعر مع كل كلمة قيلت قبل ان تكتب كانت لي دمعة كأنه الصوت الداخلي يصرخ في أعماقي ،هنيئا لك عمق المشاعر والاختلاجات مع دقة وكبر المفردات دمت