(3-3)
بين الأمثال والجُّمَل الحكمية الآسيوية والعربية، ثمة تقاطعات شعرية.
يَرِدُ في الأمثال الصينية (إنسان القليل)، فمن هو هذا الإنسان؟ في نسق المُثُل الأخلاقية الكونفوشيوسية ثمة (الإنسان الطيب) أو "الإنسان النبيل" (جونزي junzi) الذي يُعارِض "الإنسان القليل" (خياورين xiăorén) الذي يمتلك القليل من ميزات الأول. الأول يعني اسمه ابن السيّد أو الربّ، ويمارس فضيلة الإنسانية (رين ren)، ويميل إليها في الأقل. الثاني نقيضه، ويعني اسمه حرفياً شخص صغير أو قليل الشأن أو التافه، وهو لا يدرك قيمة الفضائل ويحقّق منافع فورية. شخص بسيط أنانيّ، لا يهتم لعواقب أفعاله ضمن المخطط الشامل في الكوزمولوجيا الصينية. على الحاكم أن يكون محاطاً به أيضاً بصفته نقيضاً للإنسان الطيب. إنسان القليل منغمس طوال الوقت في الملذات الحسية والعاطفية وشهوة السلطة والشهرة دون اهتمام بمصالح الآخرين. في الإنكليزية يُترجم إنسان القليل بـ (small or petty person) وبالفرنسية (l'homme de peu).بعيداً عن الجدال عن طبيعة (الإنسان الكامل) التي تحدّث عنها متصوّفة الإسلام (ابن عربي والحلاج وعبد القادر العيدروسي..الخ)، ومفهومي الجلال والجمال في الإنسان الكامل، وبغض النظر عن عنوان كتاب عبد الكريم الجيلي "الإنسان الكامل في معرفة الأواخر والأوائل"، وبعيداً عما توصَّل إليه الباحثون من أن أصول فكرة الإنسان الكامل الإسلامية تمتد في التفكير الإيراني القديم، وهو استنتاج يقطع نصف الطريق إلى النبع الأصلي للفكرة، فإن من الممكن القول إن هنالك تماثلاً بينه وبين (الجونزي = الإنسان الطيب) الكونفوشيوسيّ، أو أنه نسخة إسلامية منه. يمكن، لهذا السبب، إيجاد تقاطعات بين أمثال الصينيين والتعابير الصوفية الإسلامية بشأن الحقيقة والحكمة والفضيلة وغيرها، وأنهم لذلك سمّوا هذا الإنسان الكامل بأسماء متعددة من حضارات مختلفة، لا نستبعد كونفوشيوس من بينها في الأوقات المتأخرة.قد يُلخِّص كتاب الجيلي "الإنسان الكامل" مستخدماً المصطلحات الإسلامية، مفهوم شعار الـ (تايجي تو)، أي "ثنائية الين yin واليانغ yang" الشهيرة بقوله: (ليس في الوجود إلا الله، الذي خلق الوجود من نفسه لنفسه فليس هناك إلا هو فهو الرب والعبد، والشيطان والراهب، والسماء والأرض، والظلمات والنور، والحمل الوديع والذئب الكاسر..). لاحظ قوله إنه الظلمات والنور. في الكوزمولوجيا الصينية مفهومي "ثنائية الين واليانغّ" ضروريّ مع التحفظ على مفهوم الثنائية الصارمة. يرمز الأول، الأسود، للجانب الأنثوي للطبيعة، والثاني اليانغ، الأبيض للجانب الذكوريّ فيها. اللين واليانغ فئتان مُكمِّلتان لبعضهما وليستا منفصلتين. كلّ منهما تحمل بذرة الآخر في داخله، الترابُط بينهما لا يُتيح إدراك الأول دون إدراك الآخر، وعلاقة التوالُد والتغيُّر بينهما تصير كالنهار يحلّ محلّ الليل على التناوُب. في الفكر الآسيويّ عموماً كما في الطاوية، لا معنى للثنائيات المعروفة في الفكر الإغريقيّ، والإسلامي فيما بعد، ولا وجود تقريباً لتناقضات الثنائيات الموضوعة عادةً وجهاً لوجه: الجميل مقابل القبيح، الشرّ مقابل النور، الضوء مقابل العتمة...الخ.النصف الأبيض الذي يرمز إلى اليانغ يرمز أيضاً إلى النور، بينما النصف الأسود الذي يرمز إلى الين يرمز أيضاً إلى الظلام وهو أمر يُذكّر المرء دون شك بالجن والجان في الثقافة الإسلامية. حيث الجن هو النار (أي النور)، بينما الجن هو المستور أو الستر أي المُغطّى بالظلام. وأصل ذلك في اللغة من الجِن والجِنة لجمع الجن الذي يقابل الإنس، والجان لمفرد الجن، وهو أبو الجن الذي خلقه الله من النار، والجان يطلق أيضا على نوع من الحيات؛ قال الله "وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ" (الحجر:27)، يَعْنِي إِبْلِيسَ. ومادة "جَن" في اللغة معناها ستر. جاء في مفردات الراغب الأصفهاني أن أصل الجَن هو ستر الشيء عن الحواس؛ يقال جَنَّهُ اليل، وأجَنّه، وجَنّ عليه أي ستره [...] والجَنة كل بستان ذي شجر يستر بأشجاره، والجنين الولد ما دام في بطن أمه.ثمة تشابه لغويّ يدركه المرء على الفور بين (ين – جن) من جهة، و(يانغ – جان) من جهة أخرى. ولا نحسبه من محاسن الصدف فقط.
شعرياتُنا.. والشعرياتُ الآسيويةُ
نشر في: 19 فبراير, 2016: 09:01 م